عبدالعزيز السماري
يروي ابن طفيل في قصة حي بن يقظان القصة الرمزية عن علاقة الإنسان بالطبيعة، وتحكي قصة طفل رضيع ألقت به المقادير في جزيرة غير مسكونة في سبع مراحل، كانت الأولى إرضاع الظبية لحي وحضانتها ورعايتها له حتى جيل سبع سنوات، ثم حدثت بعد ذلك وفاة الظبية وتشريحها من قبل حي لمعرفة سبب الوفاة، وهنا بدأت تتكون ثورة المعرفة العقلية عن طريق الحواس والتجربة، وكانت المرحلة الثالثة في اكتشاف النار، والرابعة في تصفحه لجميع الأجسام التي كانت موجودة حوله، واكتشف تشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصور.
أما المرحلة الخامسة فكانت في اكتشاف الفضاء، وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره، بدأ مرحلته السادسة وهي الاستنتاج بعد التفكير، فتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد، وأخيراً، يصر حي بن يقظان، في المرحلة السابعة على أن سعادته تكون في ديمومة المشاهدة، ورغبته في البقاء في اكتشاف أسرار مخلوقاته.
حي بن يقظان أسطورة عربية خالدة، في مضامينها تكمن سيرة التطور عند الإنسان، والتي فجرت مكامن العقل الإنساني في معجزته في التطور والانتقال من حال إلى حال، ولعل ذلك يفسر الفروق الهائلة بين العقل الإنساني المعاصر والعقول التي فكرت ودونت تجاربها قبل عشرات ومئات القرون.
كان لهذه الرواية العربية إسهام معرفي لمعرفة قدرات عقل الإنسان، فالحرية لا تعني التمرد، وقد تكون طريق نضوج للمجتمعات من خلال إطلاق قدرات العقل في التأمل والتفكير، وبالتالي تحوله من كائن بدائي إلى كائن حي ومستقل وقادر على استثمار مهاراته وعقله في الوصول إلى الحقيقة..
خلاصة الموضوع أن الإنسان المعاصر يولد اليوم في هذا العصر يملك عقلية أكثر تطوراً وقدرات من قبل بسبب تراكم طفرات المعارف الإنسانية، واختلاف وتطور أنماط المعرفة، وتعدد مصادر الملاحظات، لكن الملاحظ أن الإنسان العربي استثناء في هذا المتغير وبعيد عن المشاركة في تحقيق ذاته؛ بسبب قيود فكر الوصاية والسيطرة المحكمة، وإذا أراد الخروج من حالة التيه فعليه أن يعيد الحياة لتجربة حي بن يقظان في حياته اليومية.
أسهم العلم الحديث في فهم ذلك التحول، فجينات دماغ الإنسان مرت بكمية هائلة من التطور في فترة قصيرة من الزمن، وهي عملية تفوقت بكثير تطور جينات الحيوانات الأخرى، فالتطور البشري في الواقع، عملية متميزة لأنها تنطوي على عدد كبير من التحولات في عدد كبير من الجينات، وقد يكون تطور المجتمع البشري خلال القرون نتيجة لتلك التحولات في العقل الإنساني.
يعتقد الناس أن التطور يتطلب آلاف أو ملايين السنين، لكن علماء الأحياء بدأوا يدركون أنه يمكن أن يحدث بسرعة، الآن، وبفضل الثورة الجينومية، يمكن للباحثين فعليًا تتبع التحولات الجينية على مستوى السكان حسب مجتمعاتهم، والتي تمثل مسار التطور في العقل البشري، ولهذا السبب تم تطوير التعليم في الدول المتقدمة ليواكب تسارع هذه القدرات.
تُظهر دراستان عرضتا في بيولوجيا الجينوم كيف تغيرت جينوماتنا على مدى قرون أو عقود، ورسمنا كيف أن البريطانيين على سبيل المثال تطوروا منذ العصر الروماني ليكونوا أفضل وعياً، وأكثر عدلاً، وكيف كان تأثير الجين في الجيل الأخير فقط، وتقول مولي برزورسكي، عالمة الأحياء التطورية في جامعة كولومبيا: «إن القدرة على النظر إلى الاختيارات في العمل والتكيف معها أمر مثير». وتوضح الدراسات أن الجينوم البشري يستجيب بسرعة للظروف جديدة بطرق خفية لكنها ذات مغزى، كما تقول. «إنها لعبة تغيير من حيث فهم أفضل للتطور».
لقد ركز علماء الأحياء التطوريين طويلاً على دور الطفرات الجديدة في توليد سمات جديدة في وعي المجتمع من خلال إثراء التجارب الإنسانية، ومن ثم انتشارها من خلال تكاثر السكان، وقد يعني الطرح أعلاه أن مسألة إطلاق الحريات وتشجيع ملكة التفكير وعدم شعورهم بالكبت والخوف، يؤدي بالتأكيد إلى خروج أجيال أكثر وعياً وتسامحاً وقدرة على اكتساب المعارف، فالتعلم والتجارب خير وسيلة لإطلاق الإنسان الأفضل..