د. محمد بن يحيى الفال
في وقت المحن والظروف الصعبة نرى الذاكرة تعود بنا للنهل من تجارب السلف والأجداد وأصحاب الحكمة من العلماء وسديدي الرأي والمشورة ومن هم على دراية ببواطن الأمور وأهل الحل والعقد، كذلك ومن نافلة القول فإن الأوقات الصعبة والتي هي من سنن الله في خلقة منذ الأزل، فهذه الأوقات ورغم ما تحمله من صعوبات هي كذلك توضح لنا وبجلاء لا مجال في تكذيبه أو التشكيك فيه لمن هو الصديق ومن هو غير ذلك ويدعيه من حاقد أو انتهازي. ولعل الإمام الشافعي -رحمه الله-، وهو من هو من علم ونسب وحسب وأحد الأئمة الأربعة للمدارس الفقهية السنية كان خير من وصف أهمية الشدائد في تبيان وتوضيح لا يقبل الجدل بين من هو الصديق ومن هو العدو بقوله:
جزى الله الشدائد كل خير
وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها حمداً ولكن
عرفت بها عدوي من صديقي
وخلال الأيام المنصرمة تجلي لنا وبوضوح ما قصده الإمام الشافعي في أبيات شعر الحكمة الذي اشتهر به، فقد تبين لنا ذلك من خلال لغز اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي بعد حضوره لمبني القنصلية السعودية في إسطنبول التركية وذلك لاستلام أوراق شخصية تتعلق بحالته المدنية. وقبل الخوض في المنحى الذي ذهبت فيه وسائل الإعلام وخصوصاً قناة الجزيرة القطرية في تغطية حادث اختفاء الصحفي السعودي، فلا بد بادئ ذي بدء من الإشادة هنا بحكمة كل من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود والرئيس التركي رجب طيب أردوغان واللذين أعربا ومن خلال مكالمة هاتفية بينهما عقبت حادث الاختفاء، وأكدا فيها على أهمية وقوة وصلابة العلاقات الثنائية بين البلدين واتفاقهما على تشكيل لجنة تحقيق مشتركة للبحث في تفاصيل ما حدث للأستاذ جمال خاشقجي. وبالعودة إلى التغطيات الإعلامية لما حدث، فلعله من الأهمية تُفهم حقيقة مركزية فيما يخص ما حدث وهو بأن المملكة لو كان لديها ما تخفيه بخصوص اختفاء خاشقجي لما كانت هي السباقة باقتراح تشكيل لجنة تحقيق مشتركة لحل غموض الاختفاء، والذي بدا بأن المملكة كانت جادة فيه من خلال عدم التردد بفتح أبواب قنصليتها في إسطنبول وبيت القنصل للمحققين الأتراك، وهو الأمر الذي كان للمملكة أن ترفضه انطلاقاً من بنود اتفاقية فينا للعام 1961 والتي حددت امتيازات البعثات الدبلوماسية وحقوق الدبلوماسيين، بل ولما رأينا صدور بيان النيابة العامة الذي يعترف بمقتل جمال جاشقجي في مبنى القنصلية، وبناءً عليه تم إيقاف 18 من المتهمين تمهيداً لمحاكمتهم.
لقد رأينا من خلال تغطية قناة الجزيرة لقضية خاشقجي العجب العجاب وما يندى له الجبين من أكاذيب وتُرهات ومن كثافة في التغطية غير مسبوقة ومنذ اللحظات الأولى للاختفاء.. ومما يزيد الأمر غرابة هو بأن القناة القطرية أضحت هي المصدر الرئيس لتسريبات التحقيقات التركية وهو الأمر الذي يضع العديد من التساؤلات حول هذه الصلة المثيرة للشك والربية بين كل من قناة إخبارية وبين مكتب الادعاء الجمهوري التركي في إسطنبول والمصادر الأمنية التركية، وهو الأمر الذي حدا بوزير الداخلية التركي عبدالحميد غل للسعي لتلافيه بالتصريح بأنه يجب عدم أخذها بعين الاعتبار في السبب الرئيس من وراء اختفاء خاشقجي.
السؤال الذي يطرح نفسه ويضع ضبابية على مصداقية التحقيقات هو كيف يكون لقناة إخبارية علاقة مباشرة بالجهات الأمنية التركية التي تقوم بعمل وفحص لقضية أمنية ساخنة!؟ في الكثير من دول العالم تقوم الجهات القضائية بإصدار قرارات تمنع النشر في القضايا الحساسة والتي تشوبها الكثير من الفرضيات، لكن الأمر نرى نقيضه تماماً فيما تصرح به قناة الجزيرة بنفسها في بثها من أخبار عاجلة ومتلاحقة عن القضية وبأن مصدرها إما مكتب الادعاء التركي أو الجهات الأمنية التركية، فأين المهنية وسلامة التحقيق في قضية في غاية الحساسية؟!
السيناريوهات التي صاحبت ما يتعلّق بوفاة الأستاذ جمال خاشقجي كثيرة ومتعددة وقد ظهرت الحقائق التي أكّدت المملكة بإعلانها بأنها لا تتخوف منها وستتعامل مع نتائجها كدولة تلتزم بالقانون الدولي وحسب ما لا يتعارض مع سيادتها الوطنية، ولكن أهم ما قد يُتفق عليه من تداعيات لقضية جمال خاشقجي هو أن قناة الجزيرة القطرية زُرعت في عالمنا العربي من قبل جهات استخبارية أجنبية وكانت نتائجها كارثية على العالم العربي وعلى أمنه وسلمه الاجتماعي. تعرت قناة الجزيرة بمئات الآلاف من القتلى وعشرات الملايين من المشرّدين كانت هي نتيجة تحريضها الجزيرة، وها هي الأن تسقط عنها ورقة التوت الأخيرة عن سوءتها بتغطيتها المشينة لما يحدث في إسطنبول.