ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه
حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا
حجبت عنا وما الدنيا بمظهرةٍ
شخصاً وإن جلّ إلا عاد محجوبا
كذلك الموت لا يبقي على أحد
مدى الليالي من الأحباب محبوبا
ففي صباح يوم الجمعة 25-1-1440هـ هاتفني الزميل بدار التوحيد بالطائف عامي 71-1372هـ الأستاذ عبدالعزيز بن إبراهيم الشايع -أبو عبدالله- وكان صوته صوت متأثر، ففاجأني معزياً في ابن أخيه الأستاذ الحبيب عبدالله بن محمد بن إبراهيم الشايع -أبو صالح- باحث الآثار، والمواقع الجغرافية القديمة بأنه انتقل إلى الدار الباقية، دار النعيم المقيم بحول الله ورحمته، لعلمه بمكانته في قلبي حباً واحتراماً، فحزنت كثيراً لرحيل ذاك الرجل الشهم سمح المحيا كريم الشمائل، فقد أُديت صلاة الميت عليه بعد صلاة عصر يوم الجمعة آنفة الذكر بجامع الجوهرة البابطين بالرياض، ثم ووري جثمانه الطاهر بمقبرة شمال الرياض -تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته- وكان الجو جو حزن عميق في تلك اللحظات لحظات الوداع الأخير، ولقد ولد الأستاذ الحبيب -أبو صالح- في بلد آبائه (الشعراء) في وسط عالية نجد سنة 1355هـ وترعرع في أكنافها بين أحضان والديه، وعاش طفولته مع لِداته وأقرانه في لهو ومرح في هاتيك المدينة الوادعة وما بها من مظاهر الطبيعة من أشجار، وجبال شاهقة مثل جبل ثهلان المشهور المتربع على تلك الأودية وتلك المساحات الرحبة.. الذي عناه بالخلود والمكث والمتانة الشاعر المصري إسماعيل صبري باشا في أثناء وصفه لإهرامات الجيزة وصمودها أمام عوامل التعرية، حيث قال:
قد مر دهر عليها وهي ساخرة
بما يُضَعْضَعُ من صرح وإيوان
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى
ما يأخذ النمل من أركان ثهلان
وعند بلوغه السابعة من عمره درس بالمرحلة الابتدائية في مدرسة (عفيف) وحصل على شهادة هذه المرحلة سنة 1372هـ، ثم عمل مدرساً فيها حتى تاريخ 30-1-1376هـ، بعد ذلك حصل على الشهادة الثانوية من معهد الرياض العلمي سنة 1379هـ ودرس في كلية اللغة العربية السنتين الأولى والثانية ..، ثم عمل برئاسة القضاء قبل أن تصبح وزارة للعدل
من تاريخ 23-5- 1379هـ حتى انتقل إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عام 1382هـ، ثم عمل بالمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية منذ إنشائها عام 1390هـ واستمر يعمل بها بكل جد وإخلاص حتى طلب التقاعد المبكر عام 1407هـ حيث كان يعمل أميناً عاماً لمجلس الإدارة، وله نشاط كبير في تأليف الكتب المفيدة التي يربو عددها على أكثر من سبعة عشر كتاباً مُعظمها يُعد من المراجع المهمة في تحقيق الأماكن الأثرية الموغلة في القدم، والدقة في وصف مسالك الطرق ليسهل على الباحث أو السائح الوصول إليها، فهي كالمصباح للمهتمين بالسياحة والاطلاع على ما خلفه الأوائل من حصون وقلاع وأعمال ذات قيمة:
سح في البلاد إن أردت تعلماً
إن السياحة في البلاد تفيد
وكان أغلب طباعة مؤلفاته بالتعاون مع دارة الملك عبدالعزيز -طيّب الله ثراه-
وقد ذكر في مؤلفاته الكثير من المواقع الأثرية في نجد وغيرها..، ومعاجم لبعض البلدان كما ذكر موضع غزوة (حنين)، حيث خرج بنتيجة مغايرة لما حدده الباحثون قبله لهذه الغزوة كذلك من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه .. تحقيق مواضع خمس غزوات وأحد عشر سرية (تحت الطبع)، وغيرها من المواضع المختلف في تحقيقها (تحت الطبع)، وفي مؤلفه (عكاظ المعروف سماعاً المجهول مكاناً) ناقش فيه أراء من سبقوه في الكلام عن سوق عكاظ، وتوصل إلى تحقيق المكان الذي يرى أن السوق كان يقوم فيه، وبعد صدور الكتاب شُكل لجنة حكومية من أربع وزارات نظرت في أقوال الباحثين، وتحديد كل منهم للمكان، وبعد وقوفها على الأماكن التي حُددت لمكان سوق عكاظ اختارت المكان الذي حدده المؤلف - الأستاذ عبدالله رحمه الله - كما ضمنت تقريرها خريطة مطابقة للخريطة الموجودة في الكتاب، وقد اًعتمد هذا التحديد رسمياً، وأقيم المهرجان الأخير.. في هذا المكان الذي حدده المؤلف، ويتكون هذا الكتاب من 198 صفحة، فالحديث عن نشاط - أبو صالح - يطول..، ولقد سعدت بأول لقاء معه منذ سنوات قلائل بمدينة الطائف أثناء حضورنا السنوي حفل مهرجان عكاظ بدعوة كريمة من أمير مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الأمير الفاضل خالد الفيصل، ولما علم أبو صالح أني من زملاء عمه بدار التوحيد عامي 71-1372هـ الأستاذ الوفي عبدالعزيز بن إبراهيم الشايع سُر بذلك، ثم عاد مرة ثانية محتضناً لي، فكله لطف وأدب، فأكد علي أن نذهب بسيارته لمكة المكرمة لنعتمر، وفي أثناء الطريق توقف لتناول الفطور مع القهوة، فكل أدوات الرحلات معه دَوماً ومثل هذا التواضع والكرم لا يستغرب على نظرائه أبناء مدينة الشعراء مردداً هذا البيت:
هذا ثنائي بما أوليت من حسن
لا زلت (عَوضَ) قرير العين محمودا
وهذه الرحلة القصيرة المباركة بصحبته إلى بيت الله ستظل ذكرا خالدة في شعاب نفسي مدى عمري - تغمد الله الفقيد بواسع مغفرته, ورحمته وألهم ذويه وعمه الزميل عبدالعزيز وأخويه أحمد وفهد وأبناءه وبناته وعقيلته أم محمد ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء