لقد بان الصبح حتى «لغير» ذي عينين، واستبان أن القضية ليست الخوف على حياة خاشقجي -أحسن الله عاقبته- بقدر ما هي الحرص على موت السعودية، وليس الرغبة في حياته بقدر ما هي الرغبة في موت الحلم العربي السعودي. ذلك الحلم الذي يمثل كابوسا لأعداء السعودية في كل مكان.
كشفت هذه الأزمة عوارًا كثيرًا، وأنبأت عن خلل كبير. يجب أن لا نحسب ما جرى شرًا (محضًا)، بل هو خير. فقد ظهر عيانًا من هو الصديق ومن هو العدو، وصار ملموسا ما كان متوجسًا ومظنونًا. ولم يبق إلا العزم والتوكل والعمل. أفادت هذه القضية أن إعلامنا يعاني قصورًا وظيفيًا، على مستوى الكفاءات وعلى مستوى الأداء.
فالهجوم على السعودية كان -على وضاعته- ضخمًا، وسبق ورصّت له الصفوف، ودبّر بليل أسود بهيم، كسواد وجوه وتأريخ أصحاب تلك الأجندات. وكان يسير ضمن استراتيجية إعلامية ودعائية دقيقة ومنسقة، وينبئ -وهو الأخطر- أن هناك ما هو أشد يحاك في الخفاء، أو ممكن أن يحاك. فما حدث لم يكن اتفاقًا، وواهم من يظن ذلك.
هذا يستلزم أمورًا، أولها وأهمها تمتين الجبهة الداخلية، و»العودة للأسس» والالتفاف حولها. فالصراع صراع وجودي، يجب أن تستصغر عنده الخلافات الجانبية. كما يقتضي إيجاد استراتيجية إعلامية حديثة وفاعلة، تقوم على وضع غايات بعيدة المدى، وخطط متدرجة محكمة، وإعداد إعلاميين أكفاء ومؤهلين فكريًا ومهاريًا، يسندهم مراكز بحث ومعلومات ودراسات توفر المعلومة اللازمة في الوقت المناسب، وتوجه لكيفية توظيفها بفعالية، وتضع الإستراتيجيات لمواجهة الأزمات الإعلامية. يجب أن تركز هذه الإستراتيجية على الخروج من «الحديث مع النفس» الغارق في اللغة التمجيدية، التي لا يستفيد منها في النهاية أحد، إلى الحديث مع الآخر القائم على الطرح الواقعي والإقناع العقلي، والحديث مع الذات القائم على التأمل والنقد والرغبة في التصحيح.
يجب أن يستقطب الأكاديميون والمتخصصون، ويفرغ من يوجد فيه كفاءة منهم.
إن عمل المتخصص المؤهل الذي يخرج على ملايين الناس ليقول الحقيقة، ويوضحها ويدحض الباطل، أفضل من إلقائه لمحاضراته على عدد محدود من الطلاب. وهو بهذا يقطع الطريق على أن يتكلم في هذه القضايا من ضرره أكثر من نفعه.
السعودية لا تمتلك الآلة الإعلامية اللائقة بها، وإن امتلكت بعض أدواتها فهي لا تتحكم فيها بفعالية. نحن بحاجة إلى مراجعة للأداء الإعلامي بكافة جوانبه، الرسمي وشبه الرسمي، وغير الرسمي.
هذه الحملة التي وقعت على المملكة انبنَتْ على الأكاذيب واختلاق الأخبار. يحاربوننا بالكذب والزور والتهويل، لأنهم مرتزقة، فلا يتوقع منهم غير ذلك. فلنحاربهم أو لنصد هجومهم بـ«الحقيقة». فنحن بحاجة إلى إعلام يقوم على توفير المعلومة الصحيحة في وقتها الصحيح، وعلى الطرح العقلاني البعيد عن اللغة الإنشائية، التي لا يقتنع منها في النهاية إلا المتحدث نفسه.
** ** **
د. راشد العبد الكريم - أكاديمي سعودي