د. أحمد الفراج
تعود بي الذاكرة دوما إلى تلك الليلة المشؤومة، في عام 1991، فقد كنت وحيدا في منزلي في الغربة، في إحدى مدن أمريكا الهادئة، أتابع تطورات حرب تحرير الكويت، على قناة سي إن إن، وفجأة سمعت انفجارا ضخما، والمراسل الحربي الأشهر، بيتر ارنيت، يكاد يبكي، وهو يصف المشاهد المؤلمة للأجساد الممزقة، حيث ضرب سلاح الجو الأمريكي ملجأ العامرية في بغداد، حيث يتحصن فيه أطفال وشيوخ ونساء، ولا زال طيف ذكرى تلك الليلة يمر بي حتى اليوم، وفشلت فشلا ذريعا في نسيانه، ثم أعقب ذلك تسريح المراسل، لأنه كشف جريمة مكتملة الأركان، وتم التكتم على الأمر، وفي ذات الحرب، كان الجنرال شوارتسكوف يصف مشاهد الحرب صوتا وصورة للمراسلين، وذات مرة، علق على ضرب صاروخ أمريكي لأحد جسور بغداد، كان مزدحما بالسيارات، وبعدما ضرب الصاروخ سيارة فيها أسرة عراقية قال: «ها هم قد رحلوا»، وسط قهقهة المراسلين!
هل تذكرون الطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي تم قتله بطريقة بشعة، على يد جنود إسرائيليين، وهل تذكرون ما أعقب ذلك من صمت الإعلام الدولي، وهو ذات الإعلام، المنافق ومزدوج المعايير، الذي يقيم الدنيا على حوادث بعينها، غالبا لأهداف سياسية، فهو الإعلام الذي شيطن صدام حسين، بحجة وجود أسلحة دمار شامل، وكانت جريدتا الواشنطن بوست والنيويورك تايمز، من أبرز وسائل الإعلام، التي أثارت القضية، وأوهمت الشعب الأمريكي بوجود تلك الأسلحة، التي اتضح، بعد تدمير العراق واحتلاله، أنه لا وجود لها، ما يعني علمهم منذ البداية أنه لا يوجد في العراق أسلحة دمار شامل، وقد شارك في تلك الحملة الكاذبة أسماء من عيار ثقيل، تتعلق بأهداب القيم الإنسانية، مثل الجنرال، كولن باول، الذي بكى ذات مرة، عندما شاهد حريقا في مدرسة أطفال، ولم تتحرك مشاعره، عندما كانت صواريخ كروز تلقى على رؤوس شعب العراق!.
أرفض أن أكون راقصا في فرقة إعلام الغرب المنافق، وأصطنع الألم، فقط لأن الإعلام المنافق والمؤدلج قرر ذلك لي، فأنا إنسان حر، أعرف متى أحزن، وعلى من أحزن، ولست بحاجة لضجة مفتعلة لأهداف سياسية لتنبهني لذلك، ولا يمكن أن يزايد علينا أحد، فقد أحزن على إنسان لا يعرفه أحد، وقد تعلمت عن الإعلام الغربي، مشاركا ومتابعا، أنه مزدوج المعايير، فعند كل حادثة، يتم انتقاء الأوصاف، حسب هوية المنفذ، إذ لا يمكن أن يطلق وصف «إرهابي» على المجرم الأشقر ذي العيون الزرقاء، فهذا يوصف بأنه «عنصري» في أسوأ الأحوال، لكنه لا يوصم بالإرهاب، حتى لو قتل العشرات، مثلما فعل الشاب بيرفك في النرويج، والخلاصة، هي أن الإعلام الغربي ينتقي أهدافه بدقة، ويحدد متى يتم التكتم، ومتى يتم التضخيم، لأهداف سياسية وايدولوجية بحتة، ولئن خدع الكثيرين فلن يستطيع خداعي!.