د. خيرية السقاف
جلس إليَّ نفر من مقبلي العمر يتفاوتون في الخبرة, يتساءلون عن «الخسارة» تحديدًا, ما أهمها وكيف تكون حين يقع المرء في خسارة وطنه؟!, وهم فيما يسمعون, ويشاهدون مندهشون,
قلت لهم:
الخسارة الفادحة ليست قابلة للتراجع لنقطة البداية, حين لا يكون الخاسر مدركاً لحجمها, أو واعيًا بأسبابها..
فالتزييف, والجحود, والأطماع, والغدر, والتعالي, تنكص قائمة القيم الخلقية في سلوك الجاحد, والطامع, والغادر, والمتعالي..
وحين يقع المرء ضحية لأطماع أكبر من أطماعه, وبين فكي غادر أمكن من قدرته, وتحت هيمنة متغطرس لا يرى إلا ما ترى نفسه, فلسوف يخسر خسارة فادحة بوضعه نفسَه في مأزق الخسارة..
ولسوف يضل الطريق نحو المكسب. ولن تقوم هامته في ضياء الشمس, ولن تتسع له قافلة من خسره, ولا قائمة ما خسره..
هذا مختصر الذي يقع بين فكي الدول الطامعة في مقدرات دول أخرى فتغري بمكاسب وهمية أفرادًا من لحمة هذه الدول التي يطمعون فيها, أو يقع هؤلاء الأفراد فيمن يزيف عنهم الحقائق, ويلون لهم المشاعر, ويمنطق لهم الأفكار, فيميلون إليه بمغريات الزيف التي يتفنن بها لاستدراجه إلى فخاخهم, وإيهامه بفقاعات الفهم الذي يجعلونه يزيفونه له, أو من يقع في قبضة غادر فيكونون هم ذاتهم طلقته المرتدة إلى أنفسهم, ورمحه المسدد إلى صدورهم في نهاية علاقاتهم به, فكل الطامعين أولئك, والغادرين, والجاحدين, متغطرسون بوخمهم, يعملون لغاياتهم, سلاحهم غوغاء يصكون بها أسماع البشر, وينسلون بها إلى جذب الميول إليهم,
وكسب القناعات بهم..
هؤلاء قد يكونون دولاً, أو عصابات, أو جماعات, كالتي تتعامل بمقدراتها فائقة الصنعة في الحرب الناعمة مع دول أخرى أكثر منها مقدرات, وأقل منها إمكانات, تتطلع لها بأغراض, وتسعى إليها لمصالح, فلها فيها مطامع, وغايات, تأتيها بكل الطرقات, وأول الطرق استهداف أبنائها..
فإذا كان الطامعون, المزيفون, الغادرون دولاً فإن وسائلهم إعلامية, يخصصون لها الأموال, ويسخرون لها البشر منهم, أو ممن يختلف معهم, أو من أعدائهم, فيقع المنحازون لهم عن أوطانهم في فك الخسائر التي لا تراجع عن حياضها, ولا أمل في التخلص من قبضتها..
وكثيرون أولئك الذين تستخدمهم الدول الطامعة وسيلة من خلال طموحاتهم لتغذيتهم بالزيف, واستمالة نفوسهم بالمغريات, ليكونوا الطلقة التي تسددها تلك الدول, أو الجماعات إلى أوطانهم, والصوت الذي ينعق من أجلهم ضدها, و..و..
أمامكم المشاهد المتوالية, والمحطات المغرضة, والشخوص الذين يطلقون سمومهم في وسائل التواصل, والإعلام, مفعمون بأحقادهم من أجل فكرة زائفة, أو مطمع مغرض, أو هدف خفي, أو لمجرد أن يغذ أحد نفسه في جحورهم وهو لا يدري ما فيه من السموم, ثم ما سيؤول إليه من النتائج..
وهي الخسارة الفائقة, والخسارات الفادحة يا أبنائي ليست غربة فكرية, ونفسية, واجتماعية فقط, بل موت بطيء لكل الإنسان في الإنسان, فكره, ووجدانه, ونفسه..
فما أكثر الخاسرين الذين هم أسلحة ضد أنفسهم, حين يكونون ضد أوطانهم..
فخذوا العبرة من التاريخ, واعرجوا على حقائق الوقائع, واعلم وأنكم حين تذهبون لبلد غير بلدكم لتحصدوا المعارف, وتتخصصوا في مجالاتها المختلفة, فإنما أنتم جزء من وطنكم, لا يغرنَّكم انبهار, ولا يستميلنَّكم مخادع, ولا تقعوا في زيف مغتر بذاته, ولا تنجذبوا لأفكار تأخذكم لأن تنسلخوا من أهلكم, وانتمائكم, وحبكم لذواتكم, التي هي أنتم بكلكم من الاسم, للسمة, للهوية, للوطن ..الذي هو أنتم.