د. جاسر الحربش
أثناء كتابتي هذا المقال كنت أتابع أخبار كارثة السيول في الأردن الشقيق، أتقدم بأحر التعازي للمواطنين الأردنيين ولعوائل المفقودين، وأخص بالترحم شهداءنا الأطفال في الأردن.
أقرأ حالياً في كتاب بعنوان: قصة مختصرة للجنس البشري، للكاتب اليهودي يوفال هراري. الكاتب ليس شديد التعصب ليهوديته؛ بمعنى أنه لا يعتقد بخرافة شعب الله المختار التوراتية الملفقة، لكنه شديد التعصب لدولته إسرائيل وللارتباط الحضاري المسيحي اليهودي.
يبدأ الكتاب بما هو معروف عن التطور البشري، عصر الإنسان البدائي الذي لا فرق بينه وبين ما يحيط به من كائنات في البيئة، ثم عصر الثورة التعرفية (Cognitive Revolution)، تليها الثورة الزراعية ثم الثورة العلمية التي تمر فيها البشرية الحالية، رغم محاولة التقيد بالأمانة العلمية إلا أنها تخون هذا الكاتب عندما يصل إلى مرحلة الثورة العلمية فيحدد بدايتها بالخمسمائة سنة الأخيرة، أي عصر التنوير الأوروبي المسيحي. قفز التحيز لحضارته بالكاتب إلى التناسي العمد للخوارزمي (اللوغاريتمات والجبر والمقابلة) وابن الهيثم (علوم الضوء والبصريات) وابن النفيس (الدورة الدموية في الجسد البشري) وابن سيناء وابن رشد وابن طفيل في الطب والحكمة وفلسفة الوجود والوحدانية والبيروني (علوم الأرض والقارات والخرائط) ومئات آخرين من المجددين في العلوم الفكرية والمادية.
باختصار، تناسى الكاتب عمداً ألف سنة من الإسهامات الحضارية الراقية التي لا يمكن لراصد متجرد التغاضي عنها، لكن الكاتب فعل والأسباب واضحة.
ما علينا من ذلك، والمهم أن ننظر في أنفسنا وفرصنا في استعادة ما فقدناه من حضور واستغلال إمكاناتنا المتوافرة لتحقيق ذلك.
أختلف جدلياً مع من يقول إن العقل البشري لم يتعامل مع الفكر والمادة والروح بعمق عقلي فلسفي إلا بفضل المفكرين الإغريق. في نفس العصور التي ازدهر فيها الحوار الفكري الفلسفي في اليونان كانت في الصين والهند وبلاد فارس مدارس فكرية فلسفية رائدة أخذ منها الإغريق أصول التفكير الفلسفي لأنها سبقتهم بمئات السنين في تلك المضامير. طمس إنجازات حضارات «الماقبل» سمة واضحة في ممارسات التاريخ التدويني الغربي للحضارة البشرية، وغير موجودة في ممارسات وتدوين الحضارات الشرقية. التسجيلات الشرقية كلها تقول إن الحضارات البشرية تشبه المسافر الذي يجول من مكان إلى مكان للعثور على البيئة المناسبة للازدهار.
اللافت في تاريخ الحضارات البشرية كلها أنها لا تبدأ نشاطها ثم يزداد تراكمها المعرفي في منطقة جغرافية ما إلا بعد تعرض هذه المنطقة لدمار هائل وحروب ضارية تجعلها تعود بأهلها إلى تحكيم العقول.
منطقة الشرق الأوسط ونحن منها في القلب مرت عبر القرون الأخيرة بمراحل تجريف وجودي وعقلي مادي وروحي، والآن توجد بوادر مبشرة باستردادها للعقلانية والتقاط الأنفاس، ولعل ذلك يكون من بشائر عودة الحضارة إليها مرة أخرى.