إذا كانت الثقافة هي: ناتج التجربة الإنسانية للمجتمع والفرد تاريخيًّا وجغرافيًّا، وتقاس بمقدار فاعليتها الاجتماعية، فما هي العملية الثقافية إذن؟
عندما نلحِق كلمة «عملية» بأي «مصطلح» كان، فنحن نقصد بذلك النشاط الجماعي والفردي الذي يؤدي إلى تجسيد عناصر ذلك المصطلح. ففي حالة الثقافة يوجد مجموعتان من العناصر الضرورية لتنمية الثقافة اجتماعياً وفردياً؛ وهي: المعرفة والتأهيل. والمعرفة كنشاط اجتماعي تضم: «التربية والتعليم» و»الإعلام»، وهما مترابطان لا يمكن فصلهما في النشاط الجماعي، ولكن يمكن تسليط الضوء على كل عنصر على حدة، ومدى ارتباطه بالعناصر الأخرى.
التربية تبدأ قبل الولادة! ... كيف ذلك؟
عندما يكون الهدف هو «التربية»؛ أي محصلة ما توصل إليه علم التربية الحديث، فالأمر يتطلب جيلاً من الأطفال حديثي الولادة؛ خاليًا بقدر الإمكان من الإعاقات والأمراض الوراثية والولادية؛ ويتمتع بصحة بدنية تمنحة القدرة على تلقف المعرفة. ولبلوغ مثل هذا الهدف؛ لا بد من عمل اجتماعي مؤسس؛ يشترك به «الإعلام»؛ لتثقيف جيل الشباب بشروط الزواج وبناء العائلة.
الطفل المولود حديثاً يتلقى المعرفة بمتطلبات الحياة الاجتماعية «ممن حواليه»، ولكن لا يستطيع تنمية قدراته الذاتية «بالتلقين فقط!»؛ إنما من المفترض منحه الحق «بالتجربة الذاتية»، أي تشجيعه كي يجرب ويكتشف هو بنفسه، وكذلك تشجيعه على طرح أي سؤال يخطر بباله؛ حتى لو كان أكبر من سنِّهِ. وهنا تجدر الإشارة إلى نوعين من السلوكيات السلبية في المجتمعات المتخلفة: أولا عدم السماح للطفل بالتجريب؛ وثانياً قمعه إذا أصر على التجريب وتحقيق ذاته. ولذلك لا يجوز الاعتقاد بأن «التربية» سهلة؛ ونربي أولادنا كما تربينا نحن، إنما هي عملية اجتماعية تتطلب مؤسسات سلطوية، قائمة على شروط قانونية؛ ليس لمنع العنف الأسري وحسب، بل لوضع حقوق الطفل ومقدار حقوق الوالدين تجاه الطفل موضع المساءلة القانونية.
التربية لا تتوقف بدخول الطفل مرحلة «التعليم»، ولذلك ترتبط التربية بالتعليم في معظم دول العالم. فالطفل يتعلم من «أقرانه» في البيت والشارع والمدرسة، أكثر بكثير مما يتعلمه من والديه!. و»عملية» التربية ليست مقتصرة على ما يتعلمه الطفل من والديه، مهما بلغت «ثقافتهم» من مقدار، ولذلك مسؤولية الدولة أن تكون عملية التربية تحت إشراف مؤسساتها. كما أن التربية ليست تجربة مجتمع واحد، وليست ثابتة عند مستوى واحد، إنما هي تراكم التجربة الإنسانية الشاملة على مر العصور، وتتطور بمقدار تلاقح ثقافات الشعوب.
** **
- د. عادل العلي