الدكتور عبدالوهاب المسيري، يذكر في عدة مواضع أن الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل كانت له عبارة مشهورة، يقول فيها: (إن النسيان وليس التذكر هو من يصنع المثقف).
ويقول المسيري مفسرا تلك العبارة:- أن النمط وليس المعلومة هو الذي يصنع المثقف.
وفي موضع آخر، يفسر نفس العبارة بقوله:
وقد أخبرني -هيكل- مرة أن النسيان (وليس التذكر) هو الذي يصنع المثقف، والشيء الذي كان يعنيه أن المثقف الحقيقي لا يتذكر التفاصيل دون إطار ودون رؤية كلية، وأن الرؤية الكلية بالضرورة تعني استبعاد (نسيان) بعض التفاصيل.
استوقفتني هذه العبارة كثيرا، واستوقفني أكثر إيمان المسيري العلم المعروف بهذه القاعدة وانعكاسها على تركيبته النفسية والإنتاجية كمفكر وباحث وعالم مشهور.
وبالفعل هناك العديد من أصحاب المواهب المشبعة بالمعلومات المختلفة، هذه المعلومات تكون في الغالب نتاج درجة علمية، أو بحوث تخصصية في مجال محدد بأطر نظرية وعملية، يسعى الفرد من هؤلاء إلى الحصول على تلك النتيجة سواء كانت شهادة أو مآلات بحثية تبحث في جزئية محددة من العلوم.
وماذا بعد؟، هذا النوع من التبحر في المعلومات وتخزينها يجعلها كالبضاعة المزجاة، لا تستدعى إلا عند الحاجة، وقد تمر أزمان طويلة تظل فيها تلك المعلومات مجرد حبر على ورق أو مواد رقمية في أدوات تخزينية يمر عليها الزمن وهي مجرد معلومة مؤرشفة لا تسمن ولا تغني من جوع !.
بالعودة إلى عبارة الأستاذ هيكل أولا، وتجارب الدكتور المسيري التي دعمتها، وتجلت شواهدها في إنتاجهما العلمي والأدبي، كل في مجاله وتخصصه، نجد أن المفكر هو نتاج معلومات يعيد صياغتها وترتيبها لتفضي به وبالإنسانية إلى قناعة هي في النهاية الفكرة، فالسياسي، يبحث عن المعلومة وبعد المعلومة يأتي تحليلها والوصول بها إلى قناعة تفضي إلى قرار يتخذ، يبني عليه مستقبل أمة ومصير شعب وهذا ما اصطلح على تسميته بالرؤية أو المفهوم.
وبالعودة إلى بعض شواهد المتعلمين في مجتمعاتنا العربية، وتحديدا أصحاب الدرجات العلمية الفاخرة عرفا، من حملة الماجستير والدكتوراه، تجدهم في سوادهم الأعظم، مجرد أراشيف معلوماتية، في تخصص قد يكون نادرا وفريدا، ومع ذلك هذا الكم الهائل من المعلومات الذي اكتسبوه خلال رحلة طلبهم للعلم، لا يؤهلهم لصناعة رؤية أو إطار يخولهم التغير والتغيير، التغير في ذواتهم، والتغيير في محيطهم القريب ودوائرهم الحياتية الصغرى وما يليها من دوائر اجتماعية ومشتركات إنسانية.
السبب أعزوه إلى بعض الأعراف القمعية في مجتمعاتنا العربية، والتي انسحبت على أنظمتنا التعليمية التي أصبحت تلقينية تلقائية في التعاطي مع الطالب، لا ترسم له سياسة واضحة المعالم، وإنما تحضره في إطار تقليدي يكرس الصورة النمطية في الحفظ والبعد عن التفكر والتفكير ومهاراتهما الإبداعية المختلفة.
هنا ينشأ جيل مستنسخ، منسجم مع الرتابة والتكرار، ثابت في أساليبه وطرائق تفكيره، يبحث عن المعلومة لتكون وسيلته للعبور إلى الأسهل وليس الوصول إلى مراحل جديدة من الإبداع والتميز، هنا تصبح المعلومة مجرد رقم، يضاف إلى السعة التخزينية لذلك العقل الذي أنهكه الحفظ ويقتله التفكير والاستنتاج.
على مستوى الإبداع الفني بأشكاله المختلفة، الخلود للنقلات العبقرية التي تخرج عن السياقات التقليدية للمجايلين والسابقين، المتنبي مثال صارخ لخلوده كمبدع سخر معلوماته في اللغة والعروض والبناء الشعري لرسم نسق حضوري، له جعله الشاعر الذي لا تغيب شمس الذائقة عن تجلياته، وظلت أبياته حاضرة في وجدان البسطاء قبل النخب وهنا تكمن المهارات التي تحول المعلومة سواء كانت موهبة أو قدرة أو نتيجة إلى أسلوب إبداعي ونمط إنتاجي يظل صفة لازبة تميز حضور المبدع أو المثقف وتجليه لأنه خرج من مرحلة المعلومة الصرفة، ليشكل منها وبها بناء إبداعيا محكما يرسخ في الذائقة الجمعية للعوام قبل الخواص ويصبح مقياسا للحضور والإنتاج لاحقا.
نخلص من هذا المبحث البسيط، ومن خلال شواهده المضيئة كالمسيري وهيكل وغيرهما، أن المعلومة في حد ذاتها تبقى مادة أولية تحتاج إلى إعادة تدوير وتفكيك لصهرها وإعادة قولبتها في قوالب معينة، البعض يسميه نمطا، وآخرون يرونه الإطار، وفي كلا الحاليين، نحن أمام تشكل جديد وجمعي من المعلومات، يصنع قناعة وقرارا ورؤية، تسلك بصاحبها دروبا تصل به إلى مآلات صحيحة مفيدة تصنع منه مفكرا مبدعا، مختلفا عن سياقات التكرار المعاشة في مجتمعاتنا العربية وأوساطنا الثقافية التي وأن تباينت فإنه يظل اختلافا شكليا يؤكد أن السواد الأعظم ممن يُعتبرون مثقفين ومتعلمين يعيدون تكرار تجاربهم ويستنسخون ذواتهم في أنساق حياتية رتيبة، تصنع منهم نخبا واهية لا تغير ولا تتغير لا تؤثر ولا تتأثر.
** **
- علي المطوع