الحديث عن التعليم حديث ذو شجون، يعرف ذلك يقيناً من يزاول هذه المهنة ويعمل في ميادينها يومياً، ويواجه مشاكلها باستمرار، وحديثي هنا عن شجن يمس التعليم الأكاديمي في تخصصاته الجامعية، حيث تطالعنا الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي دائماً بأخبار عن أكثر التخصصات الجامعية نجاحاً في المستقبل وأكبرها فرصة، فطوراً تأتينا رسائل فيها قوائم لأبرز الوظائف الواعدة في أمريكا للسنوات العشر القادمة، وطوراً آخر نقرأ تغريدات عن أهم التخصصات المتوقع لها عوائد ومرتبات مادية ضخمة في أوروبا للعقود القريبة المقبلة، ومن ثم يبدأ أصحابنا المستشرفون للمستقبل والمنظرون له بالحديث عن ضرورة توجيه الجيل إلى تلك التخصصات بعينها، والحث على المضي فيها دون غيرها، لأنها في نظرهم هي المستقبل للعالم من حولنا ولمنطقتنا كذلك، فيبشرون بها وبزوال الحاجة للتخصصات النظرية البحتة، وقد فاتهم أن لكل مجتمع اشتراطاته الاقتصادية الخاصة وخططه التنموية التي لا تنفك عن «الهُوية» الثقافية والفكرية.
ينبغي ألا يكون تركيزنا في تعليمنا الجامعي الأكاديمي على تخصصات تطبيقية فقط بحجة أن سوق العمل يحتاج إليها لا إلى غيرها، وبأن مخرجات الجامعات يجب أن توائم تلك الاحتياجات، فتصبح جل الخطط الإستراتيجية لجامعاتنا مبنية على هذا الهدف الذي وإن كان صحيحاً وجديراً بالتطبيق إلا أنه يحتاج إلى أهداف أخرى تتحقق معه بالتوازي، وهي أهداف أساسها نظري معرفي في المقام الأول قد لا يكون لها علاقة مباشرة بسوق العمل والممارسة الاقتصادية المحضة، والجامعة حين تتكئ بصورة كبيرة على خطة استراتيجية تراعي التخصصات التطبيقية أكثر من غيرها تصبح مؤسسة ذات وظيفة «تدريبية مهارية تطبيقية آلية» أكثر منها «معرفية فكرية فلسفية»، وما يثير الدهشة في هذا السياق أن يُطرح اقتراح من قبل أكاديميين تطرفوا في تبنيه إلى حدٍ بعيد وهو أن يكون هناك عقد بين الجامعة والطالب المقبول فيها ينتهي بوظيفة جاهزة عند التخرج، على منوال مبادرة «وظيفتك بعثتك» التي طرحتها وزارة التعليم عبر برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، وهي مبادرة رائدة لكنها لا تصلح للتطبيق في الجامعات كلها على جميع تخصصاتها وجميع طلابها!
واللافت للنظر أن هناك جامعات سعودية ناشئة جعلت جل اهتمامها وصبت غالبية جهودها في كيفية افتتاح وتشغيل الأقسام التطبيقية العلمية لتواكب جامعات أخرى عريقة لديها من الإمكانيات المادية والعلمية والكوادر البشرية والمرافق الضخمة (كالمستشفيات ومراكز البحوث والمختبرات والمكتبات) والمواقع الحيوية الجاذبة ما لا تستطيع هذه الجامعات الناشئة مجاراته، فانشغلت بصورة كبيرة عن فتح تخصصات وأقسام نظرية هي غاية في الأهمية، خاصة تلك التي تدعم الهُوية كما أشرت، وأعني –مثلاً- تخصص الدراسات الإسلامية واللغة العربية.
إن قدر هذه الدولة المباركة أن تكون هويتها إسلامية عربية، وحتى يمكن الحفاظ على هذه الهوية بصورة متجذرة عميقة لابد من وجود مؤسسات علمية تخرج دارسين وباحثين فاعلين في هذين الحقلين المعرفيين على امتداد الأجيال والمناطق، وهذا لا يتأتى إذا اقتصر الأمر على المدن الكبرى فقط، فالدور ملقى على عاتق الجامعات السعودية كلها، العريقة والناشئة على حدٍ سواء؛ لأن توزيعها الجغرافي يشمل جميع المناطق، والهوية لا تتجزأ!
إن الوظيفة الحقيقية للجامعات في كل أنحاء العالم ودوله لا تقتصر على دعم سوق العمل واقتصادياته فحسب، بل يجب -إضافة إلى ذلك- أن تؤدي دوراً آخر على مستوى الفكر والهوية، وإذا كانت الجامعات الأوروبية والأمريكية تدرس الثقافات الشرقية والشرق أوسطية وتمنح شاهدة البكالوريوس فيها، وهي تخصصات نظرية في المقام الأول وليست من صميم هويتها؛ فإن المهمة على جامعاتنا تصبح ملحة وضرورية وثقيلة، ويصبح غياب الاستراتيجيات التي تدعم مثل هذه التخصصات أمراً غير مبرر، ففي بريطانيا مثلاً؛ الدولة التي دائماً توضع في مراكز متقدمة من تصنيف التعليم الأكاديمي عالمياً، يوجد ثنتا عشرة جامعة تُدرِّس اللغة العربية وتمنح شهادة البكالوريوس لطلابها وطالباتها، كما توجد جامعات أخرى تدرس لغات شبه منقرضة، ليس لها وجود إلا في المنحوتات الصخرية أو الكنوزات الأثرية، فهل كان ذلك لدعم سوق العمل يا ترى؟!
لسنا أفلاطونيين مبالغين في المثالية إذا قلنا إن وظيفة الجامعة أن تدعم الهُوية الدينية واللغوية جنباً إلى جنب مع التخصصات التطبيقية العلمية، نحن نريد أن يكون لثقافتنا الإسلامية وللغتنا العربية المكان الذي تستحقانه أو قريباً منه في اهتماماتنا وفي خططنا المستقبلية الأكاديمية، ومن المؤلم أن تتوالى الأجيال تلو الأجيال ونحن نرى عدد المتخصصين والباحثين في هذين المجالين يتضاءل لدينا بصورة ملحوظة، فيما يزيد عددهم لدى المجتمعات والجامعات الأجنبية التي ليس لها علاقة مباشرة ووطيدة بثقافتنا وبلغتنا.
** **
- د. حمد الهزاع
h.hza@hotmail.com