الثقافية - محمد هليل الرويلي:
إن فرحًا عارمًا استحالني هذه الراهنة بكل أقواس البهجة،بعد صيف طويل مرير مرهق،انصرمت خلاله علائق ووشائج الرحلة «رقيم ودهاق أوطاننا العربية» التي نشرت سلسلتها المجلة الثقافية -قبل توقفها- ورصدت فيه حراك بعض البلدان العربية الثقافية وحرصت على تقديمه لقارئها السعودي والعربي في موائدها السبتية منذ العام الماضي،هذا الانقطاع لـ»المجلة الثقافية» المزامن لفصل الصيف أورث صاحبكم التواق لمواصلة رحلته تبعات ألقت بأثقالها وأحمالها المضنية الشائقة، بما لا يكاد يميز وصفًا وتقويلاً،فليالي الصائفة الماضية تسحبني كما تسحب الأشواق المنتظر، الذي لا يرى سوى شعاع أنوار محفوفة بلفائف وسبائك من الدمقس لغائب قفل على عزيز بعد طول غيبة.. غير أنه ما يلبث أن يكتشف أن ما رآه لم يكن سوى وهم أو حلم عابر، إنما طاف بأخياله ليخفف من حمأة أشواقه على غائبه المرتجى،فتراه يستطيل شوقًا أول النهار ثم لا يلبث أن يتقزم من ضوار الكمد آخره،في اللحظة التي أرهقه فيها تناسخ الأيام وتماثل لهفة الانتظارات وهو ينتظر. هذا هو حال صاحبكم «الأعرابي» في انتظار موعد الإعلان عن انطلاق رحلته في عامها الثاني. كان اليوم بالنسبة له مثقلاً بالكسل والرتابة،يجر قادم يومه ببطء،وكذلك الأسبوع،والشهر عقبه أشهر عدة، والمحصلة النهائية كل أيامي السالفة تشابهت.. موشومة باللدد لم أشعر حيال ليلها الأسخم تلو الأسخم سوى بتبكيت الضمير وخيبة الأسبات.. فيا لليل انقطاع المجلة الدهيم الذي لا يشتعل أصباحًا لاستئناف رحلتي..،لاستئناف ولم أرقب في نهاراتها المخاتلة سوى ذيول النور وهي تلتف هاربة وراء مرط أمها الشمس دانفة غرب مدينتي سكاكا شمال السعودية. حتى جر فجر يومه هذا إيذانًا بإشراق غرة يوم سبتي المغاربي.. وهأنذا عند من هم قادرون على رواية محنة هدوئنا الطويل رواية .. رواية ..وهأنذا عند من هم قادرون على رتق فتق جلباتنا وفوضانا المسكونة بمطحنة الحياة وتطوحاتها. فكيف تعمى الأبصار وفي المغرب من تشرق بين سواعدهم أبلغ الأساطين المتسلطنة بُبرعانية الأبجد وعتاديتها ذات النفائس والبذخ،عبر وشائح لغتهم المحكية التي أذكت إزميل فاعليتهم في تصاعد المشهد المغاربي وتموسقه،عبر رواياتهم وأشعارهم المشرئبة لها أعناق المشرق والمغرب.
فدونكم ما قاله الروائيون وما دوَّنه الشعراء في دواوينهم في بكورية رحلتنا بعامها الثاني التي أذكت المغرب وقدت أمايزها وفرائدها.
الرواية المغربية بين الإبداع والنقد تفور كمًا وكيفًا
في استهلالة هذا الملف الذي خصصنا جزءه الأول عن الرواية المغربية لما لها من ثقل نوعي،كان لها العلو والتفردن ممهورة بصمات مخصوصة غصنتها تحاريف مبدعي هذا البلد متمازج الحراك،استطاع الروائيون من خلاله ليّ أعناق المشهد العربي وليس المغاربي وحده نحو مسابره ومشاربه الإبداعية بشتى تمفصلاتها وتمظهراتها،وعن أسباب هذا التمظهر أوضح الباحث والناقد الشاعر الدكتور «محمد دخيسي أبو أسامة»: إلى أن السبب في ذلك يعود لما شكلته الرواية العربية في مستهل الألفية الثالثة من فورة بارزة الوجود سواء من حيث الكم، أم من حيث النوعية. فالناظر إلى الكم الهائل من الروايات الصادرة في كل بلاد العرب، والتي تفتقر للمواكبة النقدية سيلحظ أن المبدع العربي بدأ ينتفض ضد الركود الشعري، واختلاف الرؤى في الصيغ الشعرية، فانتقل الاهتمام إلى الرواية أو جنس السرد بصفة عامة. وهذه الملاحظة تسري على كثير من الشعراء العرب المتميزين الذين انتقلوا إلى كتابة الرواية، فمثلاً أذكر بالمغرب محمد الأشعري أو إدريس الملياني وغيرهما، وقد تميزا في اختراق الحدود الجغرافية والتاريخية ليكتبوا عن الإنسانية بصفة عامة.
وقال الناقد أبو أسامة: بالنسبة للروائيين الشباب، سُجل دخول مجموعة منهم في هذا العالم؛ والملاحظ أن بوابة السيرة الذاتية كانت الأساس، لينتقل الاهتمام إلى التخييل بكل مستوياته. وما فوز بعض الروايات المغربية بجوائز عربية مختلفة إلا دليل على هذه الصحوة. كما أن الملتقيات الأدبية أصبحت تعير الاهتمام لهذا الجنس الأدبي من حيث تفوقه أساسًا على النسيج الأدبي الشعري، واحتلاله المكانة الأولى سواء من حيث كم الروايات الصادرة أم المبيعات.
الروايات المغربية سير نفذت لما وراء الأحداث والانفعالات
وحول أنماط الكتابة الروائية في المغرب أكد الناقد الدكتور «عبد اللطيف حسو»: أن هناك نمطين في الكتابة الروائية المغربية،نمط يكتب عن الواقع، كما هو عند خناتة بنونة، ومبارك ربيع، وعبد الله العروي، وعبد الكريم غلاب، وغيرهم، وليس المقصود هنا الواقعية التاريخية والفكرية والحديثة التي تعتمد النقل الحسي، ولو بالكلمة الحية، ولكنها واقعية جديدة مرتبطة بالمضمون الثوري والنضالي للإنسان العربي والمغربي. وتنفذ بالحدث إلى ما وراء الحدث من إحساسات وانفعالات سيكولوجية، ويقظة ضمير، صراع مجتمعي من أجل حياة أفضل وإبداع جيد، ونمط يكتب لهذا الواقع كما هو الحال عند محمد زفزاف، ومحمد برادة، والميلودي شغموم، ومحمد عزالدين التازي وغيرهم. وهو نمط يقوم على وصف ما في الواقع من مسخ واعوجاج معتمدًا في ذلك على السخرية التي تكشف عن الواقع انطلاقًا من مرآة عاكسة للقيم الأخلاقية والجمالية الأصيلة. فالعالم ينتظر من يستولي عليه ويصبح سادنه أو حارسه، والحقيقة هي، فقط، هذا الانفتاح وهذا القبول بتبادل الآراء والمحاجات، إن الحقيقة ليست إلا أفقًا نسير في اتجاهه دون أن نبلغه بكليته أبدًا.
وأكد أيضًا: على أن أغلب الروايات المغربية عبارة عن سير ذاتية،كما أن جل الكتاب الروائيين المغاربة يبدؤون حياتهم الإبداعية بسير ذاتية،لافتًا إلى حضور العامية «الدارجة» في أغلب النصوص التي إنما تضعنا أمام احتمالين: أولهما أن العامية تكون أكثر دقة ووضوحًا في التعبير عن الحالة المعبر عنها. وثانيهما تقريب الصورة من أكبر شريحة اجتماعية ممكنة حتى يكون النص أكثر واقعية. وقسّم الناقد «حسو» كُتّاب الرواية المغربية إلى طائفتين وصف الأولى أنها على علم بمكونات وآليات السرد لأنها تنتمي إلى الحقل الأدبي وتشتغل داخل الحقل التعليمي والأكاديمي الجامعي كشغموم، وبرادة والتوفيق. والطائفة الثانية هاوية وموهوبة فقط وربما ليست لها أية دراية بمكونات الخطاب السردي كمن يحكي سيرته الذاتية مثلاً (الرحيل) للعربي باطما،وكذا (الخبز الحافي وزمن الأخطاء) لمحمد شكري.
وتابع: لقد صنعت الرواية المغربية لنفسها مكانًا متميزًا وقطعت أشواطًا مهمة، وأصبح لها استقلالها، كما باتت لها خصوصيتها والفضل في ذلك يرجع إلى بعض أعلامها الكبار الذين أرسوا قواعدها، رغم تواضع تجاربهم من منظورنا الآن بالنظر إلى التطور الذي عرفه هذا الجنس فلن ننسى التهامي الوزاني، وعبد الكريم غلاب، وعبد المجيد بنجلون، من رواد الجيل المؤسس ثم لابد من الإشادة بالجيل الذي تابع المسيرة وأخذ المشعل كعبد القادر الشاوي، ومحمد برادة، وحميد لحمداني.. وغيرهم.
أنفاس المثقفين المتمرسين وفلسفة الحقل السردي
وحول إسهامات المثقفين والأدباء في إعطاء نفس جديد للرواية المغربية، قال الناقد الدكتور «محمد حجو»: يتحدث النقد المغربي في ما يخص الرواية المغربية، مع قليل من الاختلاف في الرؤية والمنهج بين المهتمين بهذا الحقل السردي الحديث الطارئ على الميدان الإبداعي الأدبي المغربي، عن مراحل معينة تطبع نشأة الرواية وتطورها وترسخها جنسًا أدبيًا ذا حضور ودينامية لا يضاهيه في ذلك جنس أدبي آخر. ونرى من جهتنا تجاوزًا لهذا النقاش التأصيلي التحقيبي، أن الرواية المغربية، على الرغم من حداثة نشأتها، قد حققت تراكمًا مهمًا صاحبه تطور نوعي وتدرج في التأصيل الفني، وتنوع في المضامين والرؤى الفكرية والمنطلقات النقدية. ويبرز هذا بخاصة لدى المؤلفين المشتغلين بالعمل النقدي والأكاديمي، والذي لا يسعنا المجال هنا لذكرهم. لكن يكفي أن نطلع على محاولات الانطلاق الأولى الممتدة من عام 1924م،إلى غاية 1967م،تاريخ صدور رواية جيل الظمأ لمحمد الحبابي.
مؤكدًا في هذا الجانب على أنه يطغى على هذه التجارب الأولى نوع من الضعف الفني، شكلاً ومضمونًا. باستثناء أعمال الحبابي وغلاب والوزاني.
مستدركًا: إن أهم ما يميزها هو ذلك التداخل بين ما هو روائي وما هو سيرذاتي، ما يعتبر شيئًا بديهيًا في رسم وتحسس معالم طريق البناء الخاص بهذا الجنس الأدبي الناشئ في بيئة جديدة. كما أنه ستتوالى التجارب الإبداعية بعد هذه المرحلة التي طبعت جزءًا كبيرًا منها النكبة الستينية المعروفة في التاريخ العربي الحديث. وهكذا سيحضر الآخر (الغرب) في ملامح الرواية المغربية، بعد أن عاشت نوعًا من تضخم الذات طيلة الفترة السابقة. وذلك بحكم الارتباط الروحي والتاريخي للمثقف والأدب المغربيين بالمشرق العربي. واصفًا الجانب الفني في البناء الروائي بأنه سيبدأ في التشكل،ويظهر ذلك على مستوى الحبكة والاتجاه الخطي في السرد. ما سيفضي لاحقًا، بحكم الوضع الاجتماعي والظرفية السياسية العالمية التي أثرت بشكل كبير على الحركة الأدبية والفنية عمومًا، إلى ظهور المتكآت الإيديولوجية السياسية في المتن الروائي وحضور الفكر على حساب القيمة الفنية للعمل الإبداعي.
ديوان القول الفني تسيدته روايات الإنسان المغربي
وتابع حجو: في وقتنا الراهن تمثل الرواية، باعتبارها ديوان القول الفني الأدبي الحديث، وبخاصة وأنها اتخذت منحى جديدًا في التقاط مظاهر العصر والشرط الحياتي للإنسان المغربي، حيث لعبت المنابر النقدية والأكاديمية الجامعية دورًا كبيرًا في إرساء منظور نقدي مواكب للطفرة الكمية والنوعية. وأسهم المثقفون والأدباء المتمرسون بالعمل النقدي الجديد ذي الخلفية المفاهيمية الفكرية والفلسفية في إعطاء نفس جديد ومتجدد للتجربة الروائية المغربية في العصر الحالي، يتمثل في بروز الكتابة التأملية المتفحصة للواقع، ولكن دون السقوط في الالتقاط الحرفي للواقع، بل تخلقه من المخيلة ليكون معبرًا عن الحياة في أدق تفاصيلها الطافحة بالواقع النفسي والاجتماعي للكائن البشري. ولعل هذا ما جعل التجربة الروائية المغربية المعاصرة تتسم بالواقعية الفكرية والنقدية، وليس الواقعية المصورة المدونة لما يجري. ونلمس ذلك في أعمال العروي والتازي وشغموم وغيرهم.
الشّعر في المغرب الأقصى «لحظات دالة»
لا يميل الشعر المغربي عن المسالك التي سارت فيها الشعريات العالمية، ولكنه يبقى محافظًا على الخصوصية المؤكدة بتجارب لا تجحد مرجعيتها الإنسانية، وإن كانت تتحرك بإيقاع دمها الخاص وهويتها المعروفة. بذلك قدم الناقد والشاعر الدكتور «عبدالسلام المُساوي» للمحور الثاني الذي خصصناه عن الشعر بعد الرواية السابق الحديث عنها. وقال: يزيدنا إيمانًا بمحافظة هذا الشعر على هويته كونه -على خلاف الشعر العربي في المشرق- ظل متصل الحلقات عبر المراحل التاريخية، ولم تصبه عدوى التصنع والبديع التي أصابت زميله المشرقي؛ فاستمر مخلصا للمعنى، مصغيا لخلجات الذوات المنشئة لكيانه. ويتقوى أدعاؤنا، هذا، بشهادة كبار الدارسين والنقاد الذين امتلكوا في زمنهم جرأة الإنصاف وإحقاق الحق، مثلما فعل الدكتور طه حسين في رسالة بعث بها إلى الأديب المغربي عبد الله كنون (1908 1989) عقب صدور كتابه (النبوغ المغربي)، وهي الرسالة التي أثبتها المؤلف في الطبعة الثانية من الكتاب.
لقد وجد الدكتور طه حسين في المختارات الشعرية التي انتخبها «كنون» من الشعر المغربي عبر عصوره المختلفة، وضمها كتاب (النبوغ المغربي) نماذج شعرية هي استمرار للحركة الشعرية العربية في عصورها الذهبية؛ في الوقت الذي كانت فيه القصيدة المشرقية مكبلة بالبديع ومنفصلة عن ذوات كاتبيها طوال عصور الانحطاط.. وهكذا يمكن أن نخلص إلى أن التطور الحاصل في تجربة الشعر المغربي المعاصر، إن هو إلا استمرار طبيعي لما تفرضه قوانين التغير المحكومة بحتمية المسايرة الزمنية والحضارية. وينبغي هنا أن نضع في اعتبارنا أن تأثر الشعراء المغاربة بخاصيات القصيدة الغربية، بحكم الجوار وبحكم البعثات الدراسية، بالإضافة إلى الأنظمة التعليمية الغربية التي ظل المغاربة يستلهمونها في أنظمتهم.
وأضاف: إن تصادي الشعر المغربي مع الشعر العربي في أوج عزه في المشرق العربي، وفي الأندلس، ظل متجسداً في فن المعارضات الشعرية التي أتقنها المغاربة طوال العصور السياسية التي أعقبت الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وخصوصًا في العصر المرابطي والموحدي والمريني والسعدي والعلوي. وخلال ذلك كان الشعراء يعمدون إلى طرْق كل الأغراض الشعرية من نسيب وحماسة ومديح ورثاء، وغيرها معتمدين مكونات الإبداع الشعري، كما تجلى عند أبي الطيب المتنبي وأبي تمام والمعري والبحتري وأضرابهم، متمثلين خصوصيات الذات في علاقتها بمجريات الوقائع والسياسة والمجتمع والثقافة.
وقد اشتهر من هؤلاء الشعراء عدد كبير وردت تراجمهم في المصنفات الأدبية التي بدأ العمل فيها انطلاقًا من عشرينيات القرن السابق؛ ككتاب (الأدب العربي في المغرب الأقصى) لمحمد القباج 1929م، وكتاب (النبوغ المغربي) لعبد الله كنون 1934م، وغيرها من الكتب. ومن أبرز هؤلاء الشعراء عبد العزيز الفشتالي وأحمد المسفيوي والقاضي عياض وابن زنباع وحمدون بلحاج، وغيرهم. وقد عرف الشعر المغربي خلال هذه الفترة تأرجحاً حضاريًا ثلاثي الأبعاد (الشرق الأندلس المغرب). فمن هؤلاء من كان يزور المشرق للحج بشكل أساس، ثم يجد في ذلك فرصة ليطوف بالأمصار الأخرى، مستفيدًا من ثقافة أهلها وفكرههم ومفيدًا لهم. ومنهم من كان يقوم برحلات مكوكية بين المغرب والأندلس، إبان الحكم الإسلامي لها للقيام بمهام السياسة أو القضاء أو التعليم أو الثقافة، نظرًا للصلات الوطيدة التي كانت قائمة بين الضفتين.
وتابع «المُساوي»: لو أخذنا نموذجًا واحدًا لشاعر مرابطي هو ابن زنباع الطنجي على سبيل المثال لا الحصر، وهو شاعر وطبيب وفقيه، تولى القضاء في العصر المرابطي، لوجدنا فيه تلك الخصائص التي تستحضر عمود المشرق، ورقة الأندلس، وروح المغرب الشفيفة، يقول:
أَبْدَتْ لنَا الأيَّامُ زَهْرةَ طِيبِها
وتَسرْبَلتْ بِنَضيرها وقَشيبِها
واهْتَزَّ عِطْفُ الأرْضِ بَعْد خُشُوعِها
وبَدَتْ لنا النَّعْماءُ بَعْد شُحوبِها
وتَطلَّعتْ في عُنْفوان شَبابِهَا
مِنْ بَعْدِ ما بَلغتْ عُتِيَّ مَشِيبِها
وَقفَتْ عَليْها السُّحْبُ وَقْفةَ رَاحِمٍ
فَبكَتْ لَها بِعُيونها وَقُلوبِها
فَعَجِبْتُ للْأَزْهارِ كَيْفَ تَضاحَكتْ
بِبُكائِهَا وتَباشَرتْ بِقُطوبِها
وتَسربلتْ حُللا تَجُرُّ ذُيولَها
مِنْ لَدْمِهَا فيها وشقِّ جُيوبِها
ولا شك أن قارئ هذه الأبيات يقف على جمال المتخيل الشعري الذي تتضمنه، وهو متخيل يبعث الروح في عناصر الطبيعة بواسطة صورة مركبة يسقط فيها الشاعر مظاهر الإنسان ومشاعره على الطبيعة، كما أن أسلوب المفارقة الحاضر بقوة يعمل على إذكاء الحيوية على الدلالات. كل ذلك يجعل النص مبتكراً، لا تقليد فيه إلا ما كان من توظيف ضروري للوزن الشعري (بحر الكامل) والقافية (حرف + حرف علة + بها)، جريًا على عمود الشعر العربي. وتبقى اللغة الشعرية في هذه الأبيات ابتكارًا يعكس خصوصية الشاعر ابن زنباع الطنجي.
وعمومًا فقد انفتح الشعراء المغاربة القدماء على كل الموضوعات التي خاض فيها زملاؤهم في المشرق، بل وتفوقوا عليهم أحيانًا في بعضها. ولعل موضوع المولديات، قصائد في مدح النبي هو الموضوع الذي تفوق فيه الشعر المغربي. هذه القصائد تُلقى في حضرة بعض سلاطين المغرب ممن يشجعون الأدباء والشعراء والعلماء في مناسبات الاحتفال بعيد المولد. استمر هذا التقليد الشعري عبر العصور بدءًا من السعديين إلى العلويين حديثًا. ومن أبرز شعرائه «الخطيب، والمسفيوي، والفشتالي.. «أما في العصر الحديث فاشتهر بالشعر المولدي الفاسي الحلوي والجائي».
تأثر الشعر المغربي بالاتجاهات الفنية الحديثة
وحول تأثير الاتجاهات الفنية الحديثة على الشعر المغربي قال الناقد والشاعر «المُساوي»: لعبت العلاقات الوطيدة بين المشرق والمغرب في العصر الحديث، مع تطور وسائل النقل والاتصال وظهور الطباعة أدواراً في تفاعل المجال الفكري والأدبي. فكان لذلك التفاعل تأثير مهم في الذائقة الفنية، فظهرت خصائص المدرسة الرومانسية عند مجموعة من الشعراء، حيث ظهرت ملامح الاتجاه عندهم في بداية الخمسينات. فكتبوا الشعر الفقري ونوعوا في الأوزان والقافية، وتخلوا عن بعض التقاليد الفنية القديمة كالاستهلال والتصريع. ومنهم من تبنى بناء نصيًا متحررًا من الأوزان، مثلما فعل محمد الصباغ، إسوة بجبران خليل جبران ورواد الحركة الرومنسية في المشرق العربي. وعلى مستوى المضامين انفتحوا على هموم الذات ونبذ الجبروت والشر في المجتمع وبشروا بالحرية والعفوية في التعبير. وكان أبرز شعراء هذه المرحلة عبد الكريم ثابت، وعبد المجيد جلون، وإدريس الجائي.. ممن التقطوا الآهات القادمة من شعراء مشارقة كجبران وإبراهيم ناجي وخليل مطران وأبي القاسم الشابي.
لقد آمن هؤلاء بضرورة التغيير الفني في الشعر عن طريق التحلل من قيود المحافظة مثلما آمنوا بضرورة حركة التغيير التي ينبغي أن تمس بعض مظاهر الظلم والإجحاف في المجتمع وفي سلطه الحاكمة. ولا عجب إن وجدنا بعضًا من شباب هذه المرحلة يلتحقون في وقت قياسي بحركة الشعر الحر التي كان صداها يتردد في بعض البلاد العربية كالعراق ولبنان وسورية ومصر. ومن هؤلاء الشعراء الذين أغرتهم حركة التجديد التي كان يقودها السياب ونازك الملائكة في العراق نجد السرغيني، والمجاطي، والكنوني، والميموني..
وزاد: هؤلاء يرجع إليهم الفضل في تحديث القصيدة المغربية وتمكينها من الانطلاق في حلة جديدة، تفتح للشاعر آفاقًا واسعة للتحليق والتعبير وإبداع عوالمه الخاصة. هذه العوالم التي لم تقطع مع دواعي الالتزام الاجتماعي والسياسي، بل أكثر من ذلك فقد نجحت في دمج عنصر الذات دمجًا تلقائيًا في الصوت الجماعي في مجتمع يعج بالصراع، كما يحاول أن يؤسس للمثقف الوظيفي الذي تتطلبه مرحلة التغيير، فالمثقف يُخْلص للغة الشعرية التي كانت بحاجة إلى التخفيف من نتوءات المباشرة الفجة، من خلال فسح الطريق للتخييل ولمكون الصورة الشعرية التي غيبت طويلاً وتجديد مستويات الإيقاع. ولعل هذه الحركة هي التي مهدت لظهور الجيل الثاني من الشعراء خلال مرحلة السبعينيات.
دينامية شعراء السبعينات
وتطرق «المُساوي» لمرحلة الكتابة لدى شعراء السبعينيات والخاصية التي امتازوها في لغتهم فقال: يتفق معظم النقاد على أن مرحلة السبعينيات عرفت دينامية خاصة على مستوى الكتابة الشعرية في المغرب. فبتأثير من النصوص القادمة يومئذ من مصر: عبد الصبور، ودنقل، ومطر، وحجازي،ومن لبنان أدونيس، وحاوي، والحاج،ومن العراق السياب، والملائكة، ويوسف، والبياتي، ومن فلسطين درويش والقاسم وطوقان،وبتأثير كذلك من دروس النقد في الجامعة المغربية حديثة التأسيس التي يحاضر فيها أدباء ومفكرون من البلاد العربية ومن أوربا. وإذا أضفنا إلى ذلك وجود تيارات سياسية متصارعة على الحكم «يمين/ يسار»، فإن كل ذلك قد أتاح لعشرات الأسماء أن تعلن عن ظهورها الشعري عبر النصوص المنشورة في الملاحق الثقافية للجرائد أو في الدواوين الشعرية.
وإذا كان يصعب علينا حصر لائحة بهؤلاء الشعراء لكثرتهم وتنوع تجاربهم الفنية نورد من بينهم «بنيس وبلبداوي والشيخي»، فإننا بالمقابل نستطيع أن نتبين بعض ملامحهم الفنية والموضوعية المشتركة. لقد اتفقوا جميعًا على أن الشعر يشكل جبهة أخرى للنضال الاجتماعي والسياسي، وأن كل المكونات الفنية من صور وتوظيف التراث والأقنعة ينبغي أن تدفع كلها في هذا الاتجاه. بل لم يجد بعضهم غضاضة في الإخلاص للوازع النضالي ولو على حساب الأداء الفني؛ إذ يضمن لنفسه شفعاء متسامحين سواء من النقاد أو من القراء. يغضون الطرف عن الهنات الفنية واللغوية ما دام الهاجس الإيديولوجي حاضرًا. لم يحد عن هذا التوجه العام إلا قلة قليلة ظلت تكتب على الهامش، غالبًا ما كانت تقصى في الأنشطة الشعرية والمهرجانات.
الهايكو توليفة قصيدة الإيحاء المختزلة
الهايكو ..
دفقة من أنواء الغيم المسافر على صهوة الفصول من سماء لأخرى..
توليفة من ألوان الحياة على جناح فراشة موغلة في أدغال المعنى..
أما الشاعر والكاتب «نور الدين ضِرَار» فتناول هذا الجنس من النصوص الذي اشتهر مؤخرًا بين شعراء المغرب ومدى الاختلاف المصاحب لتقييم هذا المنجز الترجمي أو الفتي من قبل النقاد رغم اتساع دائرة تداوله فقال: قصيدة «الهايكو» بمثابة لوحة تقوم على فن الإيحاء الخلاق، تستمد أخصّ خصائصها من تلك القدرة الهائلة على اختزال شساعة العالم في لقطات شعرية غاية في الاقتصاد اللفظي والترميز الفني، بدلالات غاية في التنوع الجمالي والعمق الرؤيوي والبعد الإنساني على حد سواء،وظل هذا الضرب من الاشتغال الإبداعي مشدودًا على الدوام في قصيدة الهايكو إلى خفقتها الشعوريّة الصاعقة بدفقتها الاستعارية الخاطفة
وأضاف: الهايكو، بهذا المعنى، نص مضغوط قد يبدو للوهلة الأولى في تحققه على الورق، مجرد بذرة حبر باهتة أو زخة مطر شفيفة،لكنه سرعان ما يتفتق بفعل القراءة المتأنية المتأملة عن كون شعري لا متناهٍ في مشهديته،تمامًا كتشكلات دوائر مائيّة متماوجة عن رمي حصاة على صفحة بِركة جنائنيّة هادئة عميقة،وتبقى قصيدة الهايكو فتية على الدوام، أشبه بنبتة بريّة متوثبة من أعماق دفينة، لا تلبث أن تتكشف عند ملامستها عن دوحة حانية عميقة الجذور وارفة الظلال، أو شجرة سامقة من أدغال مطريّة هامية الآفاق فسيحة الأفياء.
واختتم «ضِرَار»: مهما بلغت درجة الاختلاف اليوم في تقييم منجزنا الإبداعي أو الترجمي في مجال الهايكو، سواء على المستوى العربي أو في المشهد الشعري المغربي، على قلة أسمائه الوازنة في ظل تفاقم فوضاه العارمة استسهالاً وابتذالاً،يبقى من الملاحظ اتساع دائرة تداوله في الآونة الأخيرة على نحو غير مسبوق، مما يكرس لدينا الانطباع بتنامي موجة أقرب إلى الموضة منها إلى خلق حساسية شعرية جديدة من شأنها فتح أفق استشرافي للقصيدة العربيّة المعاصرة. ومهما بلغت حدة التباين أيضًا في أوساط المهتمين والممارسين، نقادًا ومترجمين ومبدعين، بشأن صياغة التحديدات النظرية والجمالية لقصيدة الهايكو بصيغتها العربية، يبقى الجامع بين مختلف التصورات التأكيد على كون هذا الفن قد شكل بصيغته اليابانية على مدى أربعة قرون متواترة ينبوع رؤيا حالمة في حالة إشراق دائم، وعصارة حكمة خالدة هي حكمة الشرق الأثيرة.