د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** حين يمر بالجيل السابق سؤال: ماذا قرأت؟ وفيهم علماءٌ ووعاظٌ ومشايخُ، فإن كتاب «الأغاني للأصفهاني» ومختصراته حاضرة في إجاباتهم؛ أجاءت حقًا أم مسايرة، من غير أن يلتفتوا إلى ما يمتلئ به الكتاب من تجاوزاتٍ سلوكيةٍ قدمت نماذج تراثيةً فيها ما يُؤسف وفيها ما يعصف، وفيها ما يسوء كما فيها ما ينوء به الضمير من اختلاقٍ واختراق.
** ليس هذا خاصًا بزمننا؛ فمنذ القدم والباحثون يسمونه «مكتبة في كتاب»، ورُوي أن الصاحب بن عباد كان يصطحبه معه في رحلاته، وفي تقديمه لكتاب: (أغاني الأغاني - مختصر أغاني الأصفهاني) للخوري يوسف عون 1911-1987م كتب الشيخ عبدالله العلايلي 1914-1996م عن «فن جمال القبح» فرآه «أعمق الجمال لأنه لا يُريك الصورة الزاهية، بل ما وراءها، ولا الأبعاد، بل المهاد الخلفية، ولا الجمال في معنى الفتنة الاستهواء، بل في معنى انسجام النقائض، حيث تذوب في الجوهر التخومُ المصطنعة .....» ص 16-ج1-ط 3-1993م - دار طلاس -».
** اختصر الخوري ثلاثة وعشرين مجلدًا في ثلاثة مجلدات، ولخص الشيخ العلايلي هُوية الكتاب بتمثيله فن جمال القبح، وهنا يجيءُ مغزى هذا الطرح؛ فكيف لم يتردد أولئك الفضلاء في عزْو مصادر قراءاتهم لمثل هذا الكتاب المملوء فنونًا وجنونًا، أو لم يكفهم اسمه للدلالة على أن أهم ما في فصوله شعراءُ ومغنون لم تسلم مساءاتهم كما صباحاتهم من وحشي القول، ولو قيل لبعضهم: هل قرأت شعر «نزار» وروايات «إحسان» لأنكر واستنكر، ولو ورد غيرُهما ممن تخطوهما جرأةً في تناول «المسكوت عنه» لاستغفر واستدبر؛ أفيكونون لم يقرأُوا الأغاني، بل تماهوا مع ما يسمعونه - وهو احتمال لا يمكن تجاهله -؟ أم قبلوا جمال القبح «التراثي» ويرفضون العصريّ - وهو تناقضٌ قد تطيقه ذوائقهم -؟ أم أنه الاستتار عمَّا قد يُفهم من العامة بغير ما أُريد أو يُراد - وهذه معضلة الأقنعة التي تخفي الوجوه والملامح والمواقف والكلمات؟!
** وفي الضفة المقابلة؛ فلماذا تمتلئ مكتباتنا العامة والتجارية بمجلدات «الأغاني» ونظائره التراثية، في الوقت الذي يصادر فيه الرقيب كتابًا أو قصةً أو روايةً أو ديوانًا أو محاضرة أو ندوة لوجود «جمالٍ قبيح» في محتوياتها وفق أحكامه؟ أو ليس هذا قناعًا يمرر سوءاتٍ ويمنع أقل منها؟
** والقضية الأشمل موصولة بقناع «الادعاء» الذي يجعلنا نقول ما لا نعتقد أو نعتقد غير ما نقول، وقناع «الاصطفاء» الذي يحكم وفق الأهواء، وقناع «الانزواء» عن مواجهة الرقباء، وهذه صورةٌ عابرةٌ من كتابٍ واحدٍ مطبوع لا يمثِّل وجودًا أمام فيض الثقافة الرقمية التي يسود معظمَها «قبحُ القبح» ويستحيل حجبها.
** الأقنعة تهوى فتتهاوى.