تهاني فهد الخريجي
لا شيء قد يقتل دافعية الطالب أكثر من شعوره أنه مجرد اسم على لائحة الصف أو رقم إضافي بين زملائه, وجوده غير مرئي ونشاطاته غير ملاحَظَة! وفي هذا السياق من الإهمال قد يتصرف في نطاق أحد صنفين: ذلك النوع الذي ينطوي على نفسه ويؤثر الصمت, فما يقدمه غير جدير بالاهتمام كغيره مما وصمت لهم سمة الذكاء والتميز, أو أنه من ذلك النوع الذكي الجريء الذي أهمله من حوله فينتقل إلى مرحلة مختلفة من السلوك المزعج محاولاً لفت انتباه من حوله بإحداث ضجيج صامت: أنا هنا!.
لا يولي التعليم الأمريكي أيّ أهمية لتمييز فئة معينة أو صناعة التنافس بين الطلاب داخل الصف. فهم يؤمنون بالفروق الفردية وأن لكل شيء قدراته المتفاوتة مقارنة بالآخرين, ويعملون بشكل مختلف على جعل الجميع فخورين بما يقومون به, ويحرصون على بناء الثقة لدى الطلاب بشكل متساوٍ.. نعم سيتميز البعض في المستقبل ويقود القلة لكن لن يكون ذلك التصنيف منطلقاً من المدرسة ذاتها بالقدر الذي يعتمد فيه على مدى استفادة كل فرد من الوجبات العلمية والفكرية الصحية التي تم تقديمها فيها كلٌ بحسب شخصيته وقدراته الحقيقية. وهو التصنيف الذي لن يحصل في المدرسة في أيّ حال من الأحوال فيما عدا بعض الأنشطة الجماعية كاختيار قادة على غرار المجلس الطلابي والتي تكون بمثابة تنظيم الند للقرناء وليس قيادة القطيع.
يعتمد التفاعل الدراسي للطلاب على مشاركتهم المتفاوتة, والتي تتناسب مع قدرات كل طالب بشكل مختلف, وإن تباين مستويات الطلاب وتقبل الجميع بعيداً عن التصنيف, فلسفة تسهل على الطلاب عرض أفكارهم بكل جرأة تحت تلك المظلة الواسعة. فما يميز كل شخص هو ما قد يجعله مختلفاً عن الآخرين, وهو الأمر الذي يحفز كل فرد يعتمد على نفسه اعتماداً كاملاً لشعوره بالثقة أن ما يقدمه صحيحاً وأن ما يطرحه قابل للنقاش وأن له كياناً مستقلاً ومحترماً من الجميع.. حيث لا مكان للإجابات المثالية, ولا تصنيف لأيّ طالب يفوق الآخرين ذكاءً، فلا توجد محاولة لاستراق السمع من إجابة الصفوة, ولا الاستعانة بأيّ شخص يمكن اعتبار قدراته العقلية أعلى من غيره ولا أفكار طالب جديرة بالاهتمام أكثر من أقرانه.
فينعكس أثر تلك الفلسفة ليس على مشاركة الطلاب فحسب, بل وحتى سلوكهم داخل الصف, ويؤثر على تفاعلهم في الأنشطة بشكل متساوٍ وتحفيزهم مع احترام الاختلاف الحاصل بينهم, يحاول المعلم أن لا يلغي شخصية الطلاب في أيّ عمل يقومون به, ويقبل منهم كل نشاط, ففي أبسط الأمثلة تعطى خطوط عريضة لطريقة إعادة صياغة أفكار موضوع معين باستخدام طريقة التلخيص مثلاً للكبار يتاح فيها أسلوب مطاطي لعرض الطالب أسلوبه في الكتابة، أو باستخدام رسمة معينة مثلاً في عمر أصغر يعبر الطالب فيها عن فهمه وينقل أفكاره بطريقة قوية تعبر عن شخصيته بدون خجل.
وهو الشيء الملفت الذي قد تراه عند ملاحظة مجموعة من الطلاب يقومون بعمل فردي في إحدى الفصول الأمريكية؛ فبعد كل وحدة دراسية في مدرسة بروكلاين الثانوية التابعة لخبرات بوسطن/ أمريكا, تتم مناقشة أفكار الوحدة بطرق شتى بين المعلم والطلاب ثم بين الطلاب أنفسهم ومن ثم ينتقلون إلى مرحلة العمل الفردي لتلخيص تلك الأفكار وتصنيفها بعد تحليلها. كان من الملفت جداً وجود أولئك الطلاب في غرفة الصف في سكونٍ تام يعكس انسجامهم الشخصي مع ما يقومون به, كل منهم منغمس في عمله, بهدوء وتركيز وجدية, تساءلت عن غياب الهمس والحوارات الجانبية، أو محاولة الاستناد على نموذج الطالب المتميز بينهم, وعن الدافع القوي الذي يجعل الطالب يعتمد على نفسه, ويرفع مستوى المسؤولية لديه, فيزيد من ثقته للالتزام بتقديم ما يراه هو صحيحاً دون الاستعانة بأحد.
إنه من العدل مكافأة كل مجتهد بما قدّم, وإجزال الجزاء الحسن والثناء الجميل على كل عمل, للجميع كلٌ بقدر جهده؛ وفي نظري هو فلسفة منشئها ثقافتنا الإسلامية, لكننا حاربناها تربوياً دون أن نشعر عن طريق خلق التنافس الخاطئ بين المتعلمين. وإن تقدير الجهد المبذول بغض النظر عن النتيجة, جزء من التعامل الرباني في ديننا العظيم, فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بمن كانت في يديه فسيلة وقامت الساعة بأن يغرسها, ذلك من باب التشجيع على الزرع والنفع، أيّ نعم لكنه يحمل مفهوماً أوسع يقتضي بأن الفرد عليه أن يعمل ويجتهد, وهو ما يحاسب عليه, وليس عليه إدراك النهايات أو بلوغ التمام, فالنتيجة ليست من مسؤولياته والكمال ليس مقصوداً في أيّ حال من الأحوال. فمن يجود بالصيام ولم يرتفع سهمه في الصلاة سيكفل له الريان ذلك التباين ولن يحرم من دخول الجنة, ويكافأ الجميع كلٌّ بحسبه, وإلا لما تعددت أبواب الجنة وتفاوت درجات النعيم. وهو الاختلاف الذي اهتم به النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك لدعم قدرات أصحابه, وتشجيع كل شخص بما يملك ليسد به ثغرة ما لا يجيد, ويتقبل من الجميع كل جهد في كل مجال, فجعل لسان حسان بن ثابت كسيف مجاهد مسلول, وتقبل من سيف الله المسلول ابن الوليد إتمامه لصغار السور طالما يتقن النزال أكثر من الحفظ, وكان لحبر الأمة العباس ماكان من الفقه عندما فضل طَرْق باب العلم أكثر مما سواه, وفي الأخير ثلاثتهم من أصحاب الجنة ومن خير البشر وأفضل الخلق, حتى وإن كان في صحائفهم أعمال لم يجيدوها بالإتقان الذي كان لغيرها منه أوفر الحظ والنصيب.
إنَّ جعل الاختلاف بوابة للنجاح يسهل التعامل مع الفروق الفردية, ويحفز الطالب على تقديم ما يملك, وتحسين ما لا يجيد, فلا يقتل نفسه لينافس الآخرين طالما هو مرئي, يعلم أن نشاطه محترم, وإنجازاته متاحة, وفرصته للتقدم متوفرة في كل وقت وحين, وبالتالي فإن جهده الوحيد منصب على تطوير ذاته وخلق معياره الخاص به بعيداً عن المقارنة بالآخرين.