لا أرى من تلك الأخيلات سوى ذلك الطائر الجميل الذي قام صاحبه بسجنه ضمن قفص رائع الجمال وكبله بالقيود ثم انحنى على القفص فغطاه من الداخل لكي لا يظهر للمارة جمال ذلك الطائر فيبهت لونه ويخف بريق ريشاته الذهبية فيسقط ويتهاوى إلى الحضيض لكن الطائر لم يفهم طبيعة هذه النقطة بل لم يدرك ما الخير الذي قدمه له ذلك السجان، وبطبيعته كطائر فهو لا يستطيع العيش بتلك القيود ويبحث عن حريته دائما فهو يود الطيران ويود التباهي بريشه الجميل وبديع تغريداته وألحانه العذبة التي ابتكرها بإتقان والذي عادة ما يخطف الأذان ويشنف الأسماع بها.
وفي حين وحدة منه بدأ يغني ألحانه ولكن هذه المرة التقط صوته أحد المارة فاقترب من ذلك القفص، لكن الطائر شعر بتلك الخطوات وتوقف عن الغناء، وبدافع الفضول أراد رؤية ما يكمن خلف ذلك الغطاء كما أن ذلك المار توقف بجانب ذلك القفص لكن المار لم يتمكن من تحريك الغطاء أبدا فميزة ذلك الغطاء أن لا أحد يستطيع تحريكه سوى ذلك الطائر، فاقترب الطائر من الغطاء ثم حرك جزءا صغيرا منه فقط ليتمكن من النظر ومحاورة ذلك المار، ثم نظر إلى المار ويبدو أن ذلك المار كان سريع البديهة فقد أدرك تلك الفتحة رغم صغر حجمها صحيح أنه لم يتمكن من رؤية الطائر إلا أنه تمكن من الاقتراب ومحادثة الطائر، امتلأ الطائر سعادة فقد وجد شخص يحدثه ويبث له ما في قلبه وكذلك المار يبدو أنه أراد التحدث فتبادلا أطراف الحديث.
إلا أنه بعد استمرار التحدث بدأ الطائر يجد ضعف في نفسه وأن هناك جزءت داخله يؤرقه وكأن داخله بدأ يبهت رغم أنه لازال يحفظ تألقه وجمال ريشه وصفاء لونه ولربما ذلك حدث لأن المار لم يتمكن من رؤيته إلا أن ألم الطائر كله كان داخل قلبه وبدأ الطائر يتهاوى وكأن روحه سلبت منه إذ تسللت كلمات المار كسهام إلى روح ذلك الطائر رغم نعومتها ولطافة المار في الحديث، فقد كان لبقًا جدا في تصفيف جمله، لكن الطائر لم يعلم لماذا حدث ذلك فاقترب ثانية من جدار القفص وبصوت مبحوح فهو بالكاد يتمكن من التقاط أنفاسه.
وحدث ذلك المار بشعوره وأنه لم يعد باستطاعته مقاومة الألم فقد ضك الألم أوطاد روحه وأن داخل قلبه ألم يمزق أحشاءه الصغيرة وأنه بالكاد يقاوم، ومن الجيد أن المار لم يكن حكيما فقط بل كان طيبا كفاية ليقدم المساعدة لذلك الطائر ويبدو أنه لم يرغب في أذيته، أو تصور الطائر ذلك، حيث أنه لم يرى منه أي سوء فقد كان ذلك ما ظهر للعيان وحاول المار تغطية ذلك الجزء الصغير الظاهر إلا أنه لم يتمكن فحدث الطائر أنه لابد أن يقوم بتغطية تلك الفتحة الصغيرة فلربما تكون هي مصدر الألم إلا أن الألم اشتد بالطائر ولكنه تحامل على نفسه وتمكن من تغطية تلك الفتحة الصغيرة، وتمت إعادة كل شيء إلى ما كان عليه خفت آلامه قليلا إلا أنه لازال يتألم فكلما نطق المار بكلمة كلما زاد ألم ذلك الطائر.
أدرك الطائر حينها أن حديث ذلك المار الغريب هو الذي يؤرق صفوه فحدث المار ثانية وأخبره أنه سيتحدث وعلى المار أن ينصت دون أن يتحدث إلا أن الألم لم يخف ويبدو أن على كل من المار والطائر أن لا يحدثا بعضهما إن كانت حياة الطائر مهمة لكليهما فتحامل الطائر وقال ما من شأنه إنقاذ روحه حيث أخبر المار قائلا: اسمع أيها المار يبدو أنه ليس من الجيد محادثتي إياك ولا ينبغي لك محادثتي وعلى كل منا أن يلتزم الصمت.
ثم شكر المار على حسن تعامله ولباقته ومساعدته له، وعندما فهم الطائر بدأت آلامه تخف بل تتلاشى وبدأ يشعر بأن روحه استكنت وأن قلبه بات سليما. ويبدو أن المار استوعب الأمر كاملا وبرمته حيث أنه نظر إلى القفص وابتسم وحملت عيناه حديث الوداع ثم اتجه مبتعدا عن القفص وسار إلى حيث كان يقصد، لا نعلم بعدها كيف كان يرى الطائر وماذا أخبر من يعرف عن ما دار بينه وبين ذلك الطائر؟!
بل لا نعلم ما الذي حدث معه بعد ذلك أيضا. أم الطائر فقد تعلم كيف يكون حرا ضمن ذلك القفص وكيف يتماشى مع تلك القيود كما أنه لم يعد يحمله الفضول لمحادثة المارة ووجد أن الحياة تكمن ضمن ما تصل إليه عينه وعليه تقبل الأمر كما هو عليه. حيث أنه أدرك أن الحياة السليمة الآمنة تكمن داخل تلك الحدود وتلك القيود وبدأ بتقبل تلك الأمور بأريحية تامة. وعلم أن سجانه لا يريد له سوى الأمن الروحي وأنه يخاف عليه مما قد يتركه المارة المجهولين داخل صدره.
أما هل ستجمع الصدف بين ذلك الطائر وذلك المار فنحن لا نعلم ذلك ولكن ما نعلمه أن طائرنا ذاك لن يجرؤ على اختلاس النظر تارة أخرى ويبدو أنه رضي بواقعه بشكل تام وأصبح مؤمنا أن ما يبحث عنه من حرية هو كامن خلف أضلعه كامن داخل صدره.
«ملاحظة: إلى تلك العقول التي تقرأ ما تم مواراته خلف السطور في قصتنا حكمة ومغزى فإن فهمت فلمن فهم درس وعظة وعبرة وإن لم تفهم فلعلك أيها القارئ استمتعت بما دار وما جال بين طائرنا وذلك المار».
** **
- خديجة عمر