عبد الله الماجد
يُعبر عبد الله الناصر» في قصص مجموعته «المنبر», عن المتخيل الواقعي؛ ما حدث وما يمكن أن يحدث, وتبرز أهمية التجربة الحياتية, في إعادة إنتاجها, على النحو الذي نراه في معظم قصص هذه المجموعة, مثل قصة «الإرهابي الصغير» التي تضعنا في «مفارقة ضديّة» يُعبر عنها عنوان القصة. قصة «الرحيل» هي رصد لواقع حركة الترحل الداخلي من القرية إلى المدينة, وكيف أن المدينة لا تزال منطقة جذب لأهل القرى والأرياف. وهذه القصة تسجيل لحدث كان هو الأبرز, في حياة أهل القرى النجدية, هذا الحدث غيَّر من حياتهم, حتى أصبح بعضهم هم المؤثرون في حياة المدن. أما المتخيل «الفانتازي»؛ فتضعنا فيه قصة «رؤيا» عبر متتاليات الحُلم الذي رآه في منامه, ومحاولة تأويله عن طريق إزاحة «العجائبي» المُعبَر عنه في الحُلم, واستبداله بالمعنى الغرائبي, عندما يتم تفسير الحلم, على النحو الذي ظهر في القصة. «إرهابي وصغير» وهذه مفارقة, ومن العجائب، ولكن هذا قد يحدث في هذا العصر المليء بكل الغرائب والعجائب. وهذا ما يضعنا فيه الكاتب في قصة بهذا العنوان، طفل يتنزه مع والده في الحديقة، حيث هناك بحيرة البط، ويتصادف أن تختطف بطة فطيرة الطفل من يده، وكردة فعل تلقائي، وقد أصابه الفزع, أن لطم البطة على رأسها فأصاب عينها. وفي بلاد أوروبية هناك قانون يحكم كل شيء: البشر والشجر والحيوان والطيور، ولابد من الاحتكام إلى القانون. لكن المثير في هذه الحادثة التي سيحكم فيها القانون، تلك الحملة الشعواء من الإعلام التي رافقت الحادث، فوصفت الطفل الصغير بالإرهابي والبربري، والمثير أيضاً, أن ينساق الإعلام العربي في تلك الدولة من صحافة وتلفزيون إلى تبني الموقف نفسه. وإلى هنا كان من الممكن أن تنتهي القصة عند هذا الحد، لتجعلنا نفسر ونصدر الأحكام، ونتساءل، ولكن الكاتب قام بهذه المهمة خاتماً القصة، بأن نبأ عاجلاً ظهر على الشاشة أثناء الانفعال بالحديث عن حقوق الحيوان يقول: «إبادة أكثر من مئة طفل بسبب القصف الغربي، على أحد أحياء حي عربي»، ورغم أنه يجعلنا في دائرة المفارقة الحدَثيّة، فقد كنت أتمنى لو لم يفعل ذلك، حتى لا يوصف بالترصد المباشر لتبرير وجهة نظره، أو أنه قد أزاح «قارئه الضمني»، وكما يقول «ولفغانغ إيزر» Wolfgang Iser (1926-2007) : «إن الأديب والقارئ ينبغي أن يشتركا معاً في لعبة الخيال، فاللعبة لا تصلح إذا زاد النص عن كونه مجموعة من القواعد الحاكمة، وتبدمتعة القارئ حين يُصبح منتجاً، أي حين يسمح له النص بإظهار قدراته» (ولفغانغ إيزر؛ فعل القراءة، ص 35، ترجمة عبد الوهاب علوب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2000). وفي أحيان تتبنى المفارقة, التي تتشابك مع الحيل الأسلوبية؛ معاني متضادة بهدف تحفيز القارئ, لإعادة تفسير المضمر الذي لا تبوح به القصة بشكل مباشر. وهذه القصة، وإن لم تكن قد وقعت بالفعل، فإننا قد نتصور وقوعها، وهي تذكرنا بقصة أخرى للكاتب في مجموعة «سيرة نعل» وهي بعنوان «سباحة وسياحة» حيث تنسجم سائحة عربية، وهي تطعم البط في البحيرة، فيختل توازنها وتسقط في البحيرة ويتم إنقاذها، ولكن الصحف وصفت الحادث بأن السائحات العربيات يمارسن السباحة في بحيرة البط. تُبرز المفارقة في القصتين، التنوع الأنثربولولچي بين الأجناس البشرية، واختلاف الثقافات التي تحكم حياة هؤلاء البشر، وأننا حينما نترحل بين هذه البلدان, ترحل معنا ثقافاتنا وإنثربولوچيتنا القابعة تحت مسام بشرتنا, وتتحكم في سلوكنا. وهو أمر متسيد في معظم الأجناس البشرية. ولكن الترصد غير المبرر, من منظمات ومؤسسات دولية غربية, كان هدفه الإنسان الشرقي والعربي على وجه الخصوص, ومحاولة وضعه كصانع لكل ما هو معادٍ للإنسانية والحضارة. وهذه معضلة لا تزال قائمة, في ظل عولمة مهيمنة وغير حيادية. هذا هو المغزى من هذه القصص, التي يعزف على أوتارها عبد الله الناصر, ويعود إليها بين حين وآخر, كاشفاً سلبياتها وعدم حياديتها. من أجمل القصص في هذه المجموعة، قصة «رؤيا» وهي قصة عجائبية، ساحرة في كل عناصرها؛ في شفافية لغتها، وفي سرديتها التي تتداعى، حتى تذكرنا بذلك الخيال المتنامي في ليالي شهرزاد، وهي في شكلها الفني تشبه الرؤيا التي لا تلبث إلا لمحة أو سنة من النوم، ثم تسلمنا لنخترع رؤيانا. أو كما يقول «وين بوث» Wayn C. Booth (1921-2005) في بلاغة الفن القصصي: «إنني أكتب, فدع القارئ يتعلم ليقرأ». وهو يُسمي هذا القارئ بـ «المؤلف الضمني». وفي هذه القصة أحسن الكاتب فيما كتب، وأثار فينا كثيرًا من الرؤى, ونحن في صحوتنا. والقصة تُعبر عن رؤيا غريبة عجيبة, فهي تستدرجنا إلى مزالق التأويل, حيث تضعنا في صيغة تلمس تفسير المتخيل, مما هو فوق الطبيعي (حالة الرؤيا) بحثاً عن احتمالات التوصل إلى ما هو طبيعي, المتخفي خلف رموز الفانتازي والعجائبي. وقد وقع مُفسر الأحلام في القصة, في أحبولة التأويل المباشر, فقد اختار التويل الطبيعي الواضح, في تصاعد الرؤيا (الحدث) من ركوب الحمارين الأسود ثم الأبيض, ثم البغل والجمل بعد ذلك, ثم الفيل, وأخيرًا على ظهر حوت في عرض البحر, يبتلع الحيتان الصغيرة والدلافين وأسماك القرش, ففسر ذلك بأن صاحب الرؤيا, سوف يرتقي أعلى المناصب الوظيفية, حتى يصل إلى الدرجة الأعلى وهي الحوت, التي إن وصلها سيأكل كل شيء يجده. والواضح أن الكاتب, قد وضع مُفسر الحلم في هذا المأزق, لكي يزيح عن نفسه مغبة تأويل مُضلل. لكن هذه الرؤيا لا تزال تبحث عن تأويل آخر. وهذا هو إحدى علامات التميز الفني في هذه القصة العجائبية.