محمد عبد الرزاق القشعمي
مع بدايات نقل العلم والمعرفة وترجمتها إلى اللغة العربية منذ أمر الخليفة العباسي المأمون بإنشاء بيت الحكمة للترجمة وعلى الأخص المعارف اليونانية.
ففي القرنين 7 و 8 الميلاديين وما بعدهما ترجم كثير من هذا التراث العلمي إلى العربية بوساطة السريان، عن طريق السريانية أول الأمر، ثم عن طريق اليونانية مباشرة بعد ذلك، وبعد استقرار الإسلام في البلدان المفتوحة، أخذ العرب يتعلمون اللغات الأجنبية، فاستطاعوا هم ومن اعتنق الإسلام أو دخل في حمايته من الذميين، أن ينقلوا الكثير إلى اللغة العربية، بدأت الترجمة في أيام الأمويين، ونشطت في العصر العباسي، ومما يسر الترجمة أن العراق في العصر العباسي كان يموج بالأطباء والفلاسفة والمنجمين والحسابين من الأمم المختلفة، وممن اشتهروا بالترجمة آل بختيشوع، وهم أطباء الخلفاء العباسيين الأول، وآل حنين وآل ما سوية وغيرهم، وكان أكثر الفلسفة التي نقلت إلى العربية لأتباع أرسطو، وكانت مختلفة بشروح مدرسة الاسكندرييين.
مرت الترجمة في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى من خلافة المنصور (753) إلى نهاية خلافة هارون الرشيد (808/ 809). وتتميز بترجمة الطب والفلك، ومن أشهر النقلة فيها جورجيس بن جبرائيل، ويوحنا بن ماسويه.
المرحلة الثانية: (813 - 913) وتتميز بترجمة كتب الرياضيات والفلسفة والمنطق، وأشهر مترجميها يحيى البطريق، والحجاج بن يوسف بن مطر، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وحنين بن إسحاق العبادي، وابنه اسحاق بن حنين، وثابت بن قرة، وحبيش الأعسم.
والمرحلة الثالثة: بعد (913) وتتميز بترجمة الكتب في مختلف العلوم والآداب، ومن أشهر المترجمين متى بن يونس، وسنان بن ثابت بن قرة، ويحيى بن عدي، وكان من نتائج الترجمة توصل العرب إلى الكيمياء أو ما يعرف بالصنعة، وانتشار كتب الطب، والعناية بالفلك، وكان الطب والفلسفة سبباً في ولوج المسلمين إلى العلوم الفلسفية كاللاهوت والمنطق( ).
هذا وقد ألّف البروفسور الكسندر ستيبتشفيتش كتاباً سماه (تاريخ الكتاب) والذي بدأ يحاضر على طلبة الدراسات العليا في جامعة زغرب بيوغسلا فيا من عام 1972م عن مادة (تاريخ الكتاب والمكتبات)، ومن خلال عمله هذا جمع مواد الكتاب، الذي ترجمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت عام 1993م وصدر بجزئين ضمن سلسلة (عالم المعرفة رقم 169 - 170) قال مترجمه محمد م الأرناؤوط إن البروفسور أعاد للشرق مكانته بعد أن كان لا يحتل إلا صفحات متفرقة، على الرغم من دوره الرائد في اختراع الكتابة وأدوات الكتابة ومواد الكتابة وحروف الكتابة الثابتة والمتحركة إلخ، وقد خصص فصلاً خاصاً عن العرب بعد أن كان العرب لا يُذكَرون إلا بشكل عابر في الكتب السابقة، ففي هذا الكتاب لا يكتفي المؤلف - كغيره - بالإشارة بدور العرب في نقل صناعة الورق من أقصى الشرق إلى مركز العالم القديم، بل يهتم بتوضيح مساهمة العرب في ثقافة الكتاب بشكل عام.
وقال: «.. كان الخلفاء أنفسهم يتحمسون للكتاب ويهتمون به، إذ أنهم كانوا يشجعون العلماء على ممارسة العلوم ويحضّون الكتّاب على كتابة مؤلفاتهم، وكان هؤلاء أيضاً يشجعون كثيراً على جمع وترجمة ودراسة مؤلفات الكتّاب اليونانيين القدماء... وقد كان من الأهمية بمكان ما قام به هؤلاء من محاولات لجمع مؤلفات الكتاب اليونانيين القدماء، حيث وصل إلينا عدد كبير من هذه المؤلفات بفضل الترجمات السورية وبفضل الترجمات الأخرى التي جرت في نهاية العصر القديم وبداية العصر الوسيط. إلا أن بغداد لم تكن تجمع فقط مؤلفات الكتاب اليونانيين القدماء بل كان يصل إليها أيضاً مؤلفات الكتاب من البلدان المجاورة كالهند وغيرها.. «.
وقال: «.. ومن بين هواة جمع الكتب الكبار في بغداد يحتل الخليفة هارون الرشيد (766 - 809م) مكانة خاصة، إذ أنه كان قد جمع في بلاطه مترجمين ليترجموا له مؤلفات الكتاب اليونانيين القدماء، أما ابنه المأمون الذي حكم خلال (813 - 833م) فقد أسس الأكاديمية المعروفة (بيت الحكمة) التي ضمت مرصداً فلكياً ومكتبة ضخمة. وفي هذا المكان اجتمع أشهر العلماء والمترجمين والخطاطين في ذلك الوقت سواء من العرب أو من الهنود والفرس إلخ. وقد كان المأمون نفسه يشجع العلماء على دراسة الفلسفة اليونانية وعلى ترجمة الكتب من اللغات اليونانية والسريانية والسنسكريتية والفارسية إلى اللغة العربية... وفي الواقع لقد كان لهذا النشاط الكبير، وخاصة النشاط المتعلق بالترجمة في ذلك الحين، أهمية كبيرة بالنسبة للثقافة الأوروبية، فقد ترجمت كثير من كتب العلوم والفلسفة اليونانية إلى العربية، وسيتعرف الأوربيون لاحقاً إلى هذه الكتب عبر الترجمات العربية بالذات.
وقد كانت طليطلة هي المركز لنشاط الترجمة بعد أن استردها المسيحيون وأسس فيها برعاية الفونسو الحكيم (1252 - 1284هـ) مدرسة المترجمين المعروفة، فقد ترجمت هنا من العربية إلى اللاتينية مؤلفات الطب والفلك والرياضيات والفلسفة وبفضل هذه الترجمات تعرفت أوربا على إنجازات العرب في العلم والفلسفة وعلى مؤلفات الكتاب القدماء»( ).