زرايب العبيد، عالم نجوى بن شتوان الإبداعي والثري، إنها رواية العائلة والمجتمع الذي يفرض نفسه بالقوة على أولئك المحسوبين عليه، المنتمين إلى بنغازي في زمن ما بعد الحرب العالمية الأولى.. الزمن والمكان اللذان كانا يحوطان العبيد بالخرافة والملكية السائغة والجائرة، إنها أكبر من مجرد زرايب احترقت لتكشف قصصاً مأساوية، قصص لناس غابوا عن المشهد وانتحلوا صفات الغياب، فيما كان الآخرون يحاولون أن يتخذوا القرارات المصيرية ظناً منهم بأنهم يحسنون صنعاً، لكن منذ متى كانت اختيارات الآخرين منطقية بالنسبة إلينا؟.
تحكي القصة عن منطقة مأهولة بالسود تسمى «زرايب العبيد» التي كانت مأوى ومخدعاً لقصصهم، قصصهم التي كانت مأساوية في أحيان ولا منطقية في أحيان أخرى، حيث كانت الخرافة ضرورية كالعقيدة، بل ملحة، لتغطية ما لا يمكن الإفصاح عنه أو ما يضر الإفصاح عنه، لازمة لستر الكثير من الحقائق الموجعة.. فقصة تعويضة ومحمد بن شتوان كانت المحرك الرئيسي في هذه الرواية، الحكاية التي انفتحت منها حكايات أخرى، قصة الحب هذه كانت تعد محرمة في غرف السادة الذين اعتادو اتخاذ العبدات خليلات، لا أكثر من ذلك ولا أقل، لكني أظن بأنه كلما كانت قصة الحب معقدة وصعبة تزداد قوة، وهذا ما حدث حيث إن تعويضة العبدة ومحمد الصغير السيد كانا على دراية بالسحر الذي يجمعهما، حيث شعرت العبدة التي لا ينظر إليها أحد بإنسانيتها بين أحضان السيد الذي لم ينتبه في أي مرة لوجود هذه العبدة في دارهم، ينشغف بحبها ويغرق الإثنان في العاطفة حتى الموت، تُكاد الدسائس في العائلة، فالأب والأم لا يمكن أن يتقبلا جنوناً كهذا في بيتهم، يرسلون محمد في تجارة بعيدة وينفردون بالعبدة التي لا حول لها ولا قوة، يجهضونها مرة واثنتين وفي الثالثة يقتلونها حية، ورغم أنها عبدة إلا أنها في كل مرة كانت تقاوم مكرهم كي تقترب من إنسانيتها أكثر، لكن محمد يبدو مثل تائه يسير على طريق دبروه له منذ صغره، فليس من السهل أبداً في ذلك المجتمع أن تتخلص من عائلتك حتى وإن كانت مصدر كل المتاعب، ولهذا السبب خُلق بداخله ذلك المتمرد الذي يستمد قوته من حب العبدة، وأصبحت العلاقة المحرمة دليل قوة وامتياز، الكل كان يحاول أن يستفيد منها، والخاسران الوحيدان هما أبطال قصة الحب، خسرت تعويضة كل شيء لكنها ربحت مفتاح وعتيقة، وخسر محمد كل شيء ولم يربح حتى نفسه، جاب الله وعيدة وسالم شهود تغيرت مصائرهم وشاركوا في اللعبة التي كانت خاسرة في أوقات ورابحة في أخرى.
هذه الحكاية تُسلط الضوء على الرق، فلا أحد يعرف لماذا السيد سيد والعبد عبد، ولماذا كان البياض عاجز عن إلغاء المسافة، ولماذا دائماً ما يكون أول حجر في المسافة، كما تُسلط الضوء على الإنسان الذي من الممكن أن يتحول إلى شيطان، عن الدوافع التي تتغير حسب اختلاف المصالح، عن المرأة المسحوقة سواء كانت بيضاء أو سوداء، عن المكائد والدسائس، عن اختلاف وجهات النظر حسب الرواية، عن الحقيقة وما يختبئ خلفها، عن الكذب ومآسيه القاتلة، كتبت نجوى بن شتوان رواية تنتصر فيها للون والحب، للحقيقة على حساب الخرافة، للمرأة وأميتها التي جعلت منها أداة إنجاب فقط، لمصير الإنسان الذي يتوقف على كلمة واحدة، للاختلاف الذي يحدثه إنسان متمسك بحقيقته، للإنسان الذي رفض التخلي عن كونه إنساناً أكبر من اللحم والعظم، للمجتمع المتمدن والمجتمع المسحوق، للثراء الأناني وللفقر المدقع، كل هذا ينفتح أمامك أيها القارئ بلغة عذبة، سلسة، رشيقة، وبحكمة تشعر بها بين الكلمات، ففي النهاية قد يكون كل ما تحت الأرض يعادل كل مافوقها. وأفضل ما تخرج به من هذه الرواية، تلك التجرية التي تجعلك تقف أمام نفسك وتتساءل، ما الذي فعلته في الآخرين ولم يستطيعوا أن يتجنبوا خسائره؟.
** **
- أحمد صالح