د. خيرية السقاف
حين أكتب الذي سيلي من المضمون, فليس من عهن القول, ولا فُضْلة الكلام, ولا سطح الفكر, ولا شُحَّ الزوّادة, بل لكل حالة مقالها, ولكل جادة قافلتها, هذه مسؤولية القلم, وأمانة الكلمة..
فكما يُعلم أن الإنسان في دنيا عليه, وليست له إلا حين تكون حبال يقينه قوية, ومتانة أجنحته مكينة..
وهو يترحَّم فيها, لكنه لا يترحَّم إلا على موتاه, وينسى أن يترحَّم فعلا لا قولا على نفسه,
إلا بالكاد..
أما الموتى فأولئك فقد انقطعت أعمالهم التي يحصدون بها أجورهم يرجون بها رحمة ربهم, وما لهم من «عمل مثمر باق, ودعوة ابن صالح, وصدقة جارية», وترحُّم محبيهم, وسواهم عليهم!..
لكن الأحياء من الناس قلَّ فيهم من الراشدين من يعي تماما قيمة الدعاء, فما البال بصغارهم الذين إن أدوا صلاتهم لاجت عيونهم, وأسرعت حركاتهم, ولم تطمئن فيها أعضاؤهم, وما إن ينهوها يركضون عن مكانها, لم يعلمهم المنشِّؤون لهم قيمة الطمأنينة فيها, والهدوء عند أدائها, ولا الجلوس للدعاء بعدها, فالدعاء رحمة!..
الشاهد أن المرء بحاجة لأن يترحَّم على نفسه في زمن كثرت فتنه, وعمَّت فوضاه, واختلطت مقاصد الناس فيه, وكبرت حاجاته الدنيوية, وشُحت موارد وموائد الذكر الواعي, الخالص باليقين, الصادق بنقاء العقيدة, الذي يمتزج بها فهمه السليم لما بين الحياتين, ومعرفته الدقيقة لما يكون الحصاد المثمر في الأولى, وما بعد اجتيازها..
فمن هو الآن في الناس بحاجة لأن يترحَّم على عقله وما يدرك؟!,
وقلبه وما يكن؟!,.
وجوارحه وما تبصم؟!..
ومشاعره وما تميل؟!..
حين الدنيا غدت «أكبر الهم, ومبلغ العلم» للسواد الأعظم من الناس المسلمين تحديدا؟!..
من الذي فيهم في أمس الحاجة لأن يفتح عينيه نحو أعلاه, بعد أن أغْمضت عيون من مات تحت ثراه؟!..
ولأن يشنِّف أذنيه لوَجِـيب داخله, بعد أن أخذته الحياة نحو زخرفها, وعلومها, بصوتها, وأصدائها, قبل أن يؤول إلى مآلهم؟!..
إن المترحِّمين على الموتى, يليق بهم أن يترحَّموا على أنفسهم قبل أن تنطفئ فيهم وقدة الحياة..
ولأن الدعاء حبلٌ, وسبيل, وحقل, ومنجم..
وبالديمومة يتمكن المرء من مدِّه, ولجامه, وتنبسط له سبله, وتلين له وسائله, وتظله عرائشه, وتدنو منه ثماره, ويتذوق قطوفه, وترويه دلاؤه, فلندعو معا:
ليرحمنا الله بلطفه قائمين وجالسين, ماشين ومستروحين, مفكِّرين وكاتبين, عاملين وعابدين, نائمين ومستيقظين..
فأعِنَّـا يا رحمن يا رحيم, على حسن الصلة بك, ما خفقت لنا طارفة, وما استكانت لنه جارحة..
ولا «تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا», ومدَّ لنا في الدعاء بهبة منك, ومكنَّا جميعنا من القرب إليك بجودك, وهب لنا الأنس بهذا القرب منك..
و«ارحمنا فوق الأرض, وتحت الأرض, ويوم العرض» أحياؤنا وأمواتنا..
برحمتك الواسعة, وتوفيقك يا الله.