د. جاسر الحربش
النسب متساوية في كل مجتمعات الدنيا.. غالبية البشر ينتمون إلى محدودي أو متوسطي الذكاء، ودور هؤلاء يكون للمهام المعيشية اليومية، البقية موزعة بين الأذكياء وفائقي الذكاء والعباقرة، فالأذكياء للإدارة، وفائقو الذكاء للمسؤوليات الحساسة، والعباقرة للابتكار وحل المعضلات والأبحاث العلمية.
المشكلة أن محدود الذكاء لا يدري أنه كذلك بسبب مستوى ذكائه، والعبقري لا يدري أنه عبقري لانشغاله عما حوله بما يدور في رأسه، ولكن الأذكياء وأصحاب الذكاء الفائق هم من تقع عليهم مهمة الاكتشاف والفرز والتصنيف.
من أهم أولويات الأكاديميات الغربية تكليف الأذكياء وفائقي الذكاء في طواقمها باكتشاف العقليات العبقرية بين الطلبة، وإيصالهم إلى المهتمين في مراكز المسؤوليات الكبرى.
بهذا المعنى نستطيع فهم التطبيق الألماني منذ القرن التاسع عشر الذي يقول: يكفينا للنهضة الألمانية العثور على العشرة في المائة من فائقي الذكاء والعباقرة، أما التسعون بالمائة الأقل ذكاءً فهم الطاقة التشغيلية لمشاريع النهضة.
هذا التطبيق يحتاج إلى وجود مؤسسة أو وزارة يديرها أناس فائقو الذكاء لاكتشاف العقول العبقرية النادرة المتناثرة في النسيج الاجتماعي، مثل ندرة الجواهر في خامات تراب الأرض، خصوصاً في الأوساط المدرسية والطلابية.
عندما واجه العبقري البريطاني آلان تورنج المخترع الأول للآلة المفكرة احتمال إنهاء مهمته وإجهاض المشروع المكلف به لتفكيك الشفرة العسكرية الألمانية، بسبب تخطيه المبلغ المرصود لفريقه العلمي (مائة ألف جنيه) أدرك أن العسكري المشرف على المشروع أغبى من أن يفهم تعقيد المهمة، أي مهمة العقل البريطاني مقابل العقل الألماني. احتال العبقري تورنج حتى وصل إلى رئيس الوزراء تشرتشل المعروف بفراسته في تمييز العقول.
آلان تورنج نفسه عثرت عليه الاستخبارات البريطانية في سجلات الطلاب في جامعة أوكسفورد كطالب انطوائي يسخر منه زملاؤه، ولا يلفت النظر سوى أنه كان يستطيع حل أعقد المسائل الرياضية والألغاز الرقمية في دقائق، فكلفته الاستخبارات العسكرية بمهمة تفكيك الشفرة الألمانية (انيجما).
الذكي جداً ويستون تشرتشل أدرك عبقرية آلان تورنج وأمر باستمرار مهمته، وفي النهاية نجح المشروع واستطاع الحلفاء إجهاض الهجمات الألمانية القاتلة، وكسبوا الحرب العالمية الثانية.
إذاً ما الذي لدينا، عبقري كان لا يعرف أنه عبقري في الجامعة، وعسكري في الاستخبارات يقصر ذكاءه عن اكتشاف قدرات العبقري، ورئيس وزراء فائق الذكاء اكتشف الجوهرة الموجودة في دماغ ذلك الشخص الذي كان طالباً انطوائياً يسخر منه زملاؤه.
المحصلة: نحن في أمسّ الحاجة في مرحلتنا الحالية إلى مؤسسة أو وزارة من الأذكياء وفائقي الذكاء لتجميع عبقرياتنا المتناثرة هنا وهناك في النسيج الاجتماعي ولا يلتفت إليها أحد.