عبدالعزيز السماري
الحكمة مفهوم قديم جداً، ورد ذكرها في مختلف الثقافات القديمة على نطاق واسع، وفي إدراكها محاولة للوصول إلى السؤال الأكثر جدلاً: كيف يعيش المرء على أفضل وجه؟ وكيف يصل إلى درجة الحكمة، ولهذا كان التراث العربي مشغوفاً بإنتاج الجمل القصيرة، والتي تحمل معاني مختزلة على هيئة نصائح عابرة للأزمان، لكن لم تجب على كيفية الوصول إلى درجة حكيم في هذه الحياة.
قد كان للحكمة فصل كبير في مجلدات الثقافة العربية القديمة، وارتبط مفهوم النبوة لغوياً بمعنى الحكمة، فكان لكل قبيلة أو أمة حكماءها يهدونها إلى السبل الأكثر سلاماً وأمناً في تلك الأزمنة، بينما اخترع الإغريق الفلسفة، وربما كان لتواصلهم المكثّف مع الأمم الأخرى دور في ذلك، فقد تعرّضوا للعديد من أنواع الأديان المختلفة وطرق التفكير، وتمكنوا من بناء ما يكفي من الأرستقراطية التي يمكنهم تحمّل وجود حفنة من الناس يجلسون حولهم، ولا يفعلون الكثير بدنياً، ولكن يقدمون الأفكار الجديدة للمجتمع الصغير? ورغم الدعوات الشعبية المتكرِّرة إلى التفكير والتصرف بحكمة في حياة الإنسان، لكن الاختلاف ما زال قائماً عن ماهية الحكمة، وهل يمكن أن يكتسبها الإنسان في حياته الدنيا، أم أنها تخضع لعوامل غير قابلة للقياس، لكن من المؤكّد أن المعرفة ليست الحكمة، والتي لا تعني أكثر من تراكم المعلومات، والقدرة على الاحتفاظ بها، ثم القدرة على استرجاعها بنجاح عند الحاجة إليها لاحقاً، ويمكنك للمرء جمع كل المعارف في العالم على مجموعة واسعة من المواضيع، ولكن بدون حكمة أو قدرة لمعرفة كيفية الاستفادة من هذه المعلومات، فإنك لن تصبح أكثر من مجرد موسوعة هل تعلم..? ربما تفسر هذه الكلمات وجود ذلك الاختلاف الشاسع بين العلماء والخبراء، وبين غيرهم من فئات المجتمع، فالقدرة إلى تفكيك المعلومات ثم إيصالها من جديد في نسق مختلف هو بيت القصيد فيما يُطلق عليه بالحكمة، فالحكمة تكمن في أولئك الذين يملكون القدرة على التفكيك بذكاء في مخزوناتهم المتراكمة من المعلومات، وفي أخذ هذه المعرفة، ثم تشريحها، والاستفادة منها في الوضع الجديد.? أما بالنسبة للفلسفة أو كيف تكون فيلسوفاً، فهي أنها لا تعني القدرة على فهم المعرفة من الماضي، ولكن الحاجة إلى أن تكون قادرًا على مقارنتها بمعرفة الحاضر دون أي تحيز، ثم في النهاية تحتاج إلى استخدام هذه المعرفة من الحاضر والماضي والتنبؤ بأوجه القصور الموجودة في فهمنا الحالي للمساعدة في فهم المستقبل.
ومن أجل أن نصل إلى تلك الدوائر والتنقّل خلالها بوعي لا بد من التطرّق إلى الحقيقة، فقد كانت وما زالت محور الصراع البشري، وما زال إطلاقها بتجرّد من العقل يشكِّل الأزمة الحقيقية بين الجهالة والحكمة والفلسفة، فالحقيقة لم تكن يوماً ما مجرَّدة من أبعادها الزمنية والعلمية، فقد وكانت دوماً محل تطور تغيّر عبر تقدم حلقات التطور الإنساني في البحث العلمي، ومن خلال هذه المقدمة القصيرة أعلاه، قد ندرك الفروقات بين المعرفة والحكمة والفلسفة.
فالمعرفة يتم اكتسابها عن طريق الخبرة والقراءة والتعليم والحياة اليومية، ولهذا تظل المعرفة محدودة، وهذه المحدودية لا تجعلك حكيماً، فمن الحكمة أن يطبّق المرء هذه المعرفة بطريقة عقلانية وموزونة في قراراته اليومية، وإلا ما هي الفائدة من وجود هذا الكم الهائل من المعرفة في ذاكرته، بينما تعمل الفلسفة على فهم أبعاد تلك المعرفة، ثم التفكير بصوت عال والتساؤل حول حقيقتها، فهي «المعرفة العلمية، مجتمعةً مع العقل البديهي..