د. محمد بن إبراهيم الملحم
في مقالتي السابقة عن الفرصة الذهبية في تولي وزير واحد لكلا التعليمين العام والجامعي أشرت إلى أن التراشق السالف بين التعليمين واتهام كل منهما بقصوره في تعزيز الناتج التعليمي انتهى بطريقة الإخماد المباشر، ولكن يبرز بدلا عنه السؤال الأكبر والأكثر إحراجاً: أين الإنجاز في التنسيق بين الرؤيتين!.. وسوف أستمر في المقالات القادمة في حديثي عن التعليم الجامعي بعد أن تشبعت هذه الزاوية (شيئاً ما) باهتمامات التعليم العام وإن كنت سأعود إليه لاحقاً لأهميته فهو الأساس، وسأستعرض اليوم الدور التاريخي للتعليم الجامعي وما مدى الإنجاز الذي حققه.. وسأتطرق لاحقاً إلى جوانب مهمة جداً تهم الطلاب الجامعيين بشكل خاص، هذه الفئة التي يهمنا إخراج صوتها ومعاناتها للمجتمع لأنهم أمل النماء والازدهار لمستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
مثل كثير من البلدان النامية فإن الجامعات تأسست منذ الستينات لتؤدي دورها في نقل الدولة من المرحلة الزراعية الرعوية إلى المرحلة الإنتاجية والصناعية، وخرّجت المهندسين والأطباء والمعلمين والقانونيين والمحاسبين وكثير من التخصصات التي ساهم بها أبناء الوطن في بناء دولتنا الحديثة بمقوماتها الحضارية حتى أصبحت يشار إليها بالبنان في لحاقها بأخواتها من بلدان الشرق الأوسط التي سبقتها في المجال العلمي والإنتاجي، ثم كانت ذروة نتاج التعليم الجامعي السعودي في تمكن أكبر ذراع إنتاج في التحول من شركة أجنبية إلى شركة وطنية بعد أن وثقت في توافر أعداد كافية من القيادات والكفاءات الوطنية التي تشغّل هذه الشركة وتقودها، واستمرت الجامعات في نتاجها التعليمي الجيد في تناغم مع الناتج التعليمي «الجيد» للتعليم العام (عندما كان التدريس أكثر مهنية والاختبارات أكثر جدية) ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ استجابت الجامعات مع الأسف مع التراجع التدريجي لجودة الناتج التعليمي في التعليم العام وتراجعت معه معاييرها، بل أسهمت هي ذاتها في تراجع التعليم العام من خلال ضعف خريجيها الذين تعدهم لمهنة التدريس فأصبحت كليات التربية هنا وهناك هي الملاذ الآمن لمن لم يجد قبولا في الكليات التخصصية وغداً التدريس مهنة من لا مهنة له كما هو معروف ومشتهر.
الجامعات هي الأمل الدائم للنهضة والنمو الاقتصادي وهي االمصدر الأساس لرأس المال البشري، وبالتالي فإن ثباتها على نفس المستوى ليس هو المتطلب الأدنى، بل يعتبر قصوراً عن اللحاق بالتقدم المعرفي الذي قفزت إليه البشرية، ولا أدعي أن الجامعات لا تواكب هذا التقدم في ما توفره من معامل ومصادر معرفة ونشوء بعض التخصصات الجديدة وإعادة هيكلة بعضها الآخر فهذه إنجازات تشكر عليها جامعاتنا، ولكنما أرمي إلى قدرتها على استيعاب المتغيرات الاجتماعية والأداء المتراجع لناتج التعليم العام وتماهيها معه.
إن إلقاء التبعة على التعليم العام فقط دون اتخاذ إجراء غير كاف، وما عجز عنه التعليم العام ينبغي أن تستدركه الجامعة، وأتوقع أن عدداً من الجامعات عندما نمطت السنة التحضيرية بطريقة جديدة ربما هدفت إلى ردم هذه الفجوة، فإن كان الأمر كذلك فقد تحقق لها حسن النية ومجرد التنفيذ ولكنها لم تستوعب تماماً التهيئة الحقيقية للطالب ليتفوق فعلاً وسأتحدث لاحقاً بشكل مستقل عن السنة التحضيرية.
ومن جهة أخرى فإن الجامعات ولكي تتمكن من التعامل مع المنتج الضعيف من التعليم العام ينبغي لها أن توفر الأساتذة المتميزين في مهمة «التدريس» وتنفق على ذلك بسخاء شديد، ولكنه لم يكن في أجندتها لأنها أصلاً تنظر لذاتها كمؤسسات للبحث العلمي تماماً كالجامعات العالمية، وهذا جيد ولكنما تضخم ذلك يؤثر سلباً على تكييف الجامعة للدور الأهم وهو التدريس، كاستجابة طبيعية لمرحلة بناء الذات الإنتاجية.. هل من جوانب أخرى تعاني منها الجامعة؟.. الجواب نعم وسأشرحها.