أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الأصْل في مفْردات اللغة أنْ تنزل على مدلولها؛ ولكن بقيد يميزه عن معاني مفْرداتها مثل الحط (بالحاء المهملة) والإلقاء؛ فإذا صح أن الْحط إلقاءٌ من أعلى كما ذكر ذلك الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى: فالْعلو غير مشترط في الوضع؛ والموضوع اسم مفعول؛ فهو اسمٌ لما تلْقيه في مكانه؛ ثم توسعتْ المادة مجازاً؛ فأطْلقتْ على الإيجاد؛ لأن ما تم إيجاده يلقى في مكانه، وواضع الخبر ؛ وهو مخْتلقه:سمى اختلاقه وضْعاً؛ لأن معانيه كانت في ذهْنه فألقاها على الألفاظ؛ وموضوع النص الأدبي هو المعنى، أو الفكرة الذي توْرد بقية معاني النص وتورد بقية أفكاره من أجْله؛ فكأنها ألقيت عليه؛ فأصبح موضعاً لها، والموضوع الذي هو معنى المفردة: جعل للموضع الذي هو الْمتخلق كما سيأتي من كلام (الجرجاني)؛ فقد عرف الموضوع الاصطلاحي بالمحل؛ ووجه المجاز أن المحل ألقي ووضع؛ ليوضع عليه غيره من المعاني؛ فقصيدة (أبو ماضي) العينية موضوعها البحث عن السعادة، وموضوع قصيدة (رؤيا فوكاي) للسياب: تعْني توتر العالم الجديد، وانعدام الرؤية المتفائلة؛ وموضوع النص الأدبي يضيق دائرة عمومه بمقصد النص؛ فلا تقول: (موضوع عينية أبو ماضي السعادة)؛ لأن منْحى القصيدة يعني البحث عنه فكأنه العنقاء المتوهمة.
قال أبو عبدالرحمن: الآن أستعرض بعض أقوال اللغوييْن وأهل الاصطلاح.. قال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى: «الواو والضاد والعين (يعني وضع) أصلٌ واحد يدل على الخفض للشيء وحطه».. انظر مقاييس اللغة ص1094.. وذكر الراغب أن الوضع أعم من الحط؛ لأنه يأتي بمعنى الإيجاد والخلق .. انظر المفردات ص 874. قال أبو عبدالرحمن: هذا العموم في المجاز لا في الحقيقة اللغوية.. وقال الجرجاني: (الموضوع هو محل الْغرض المختص به.. وقيل: هو الأمر الموجود في الذهن).
قال أبو عبدالرحمن: كأنه ألقى الذي في ذهْنه ووضعه في الألفاظ؛ وهذا يصدق على الحديث المكذوب، ولا يصدق على موضوع النص؛ لأن الذي في الذهن هو المعاني والأفكار التي ستلْقى في النص من أجل الموضوع.. وموضوع كل علم هو ما يبْحث فيه عن عوارضه كبدن الإنسان في علم الطبيب، فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض؛ وكالكلمات في علم النحو: فإنه يبحث عن أحوالها من حيث الإعراب والبناء.. وموْضوع الكلام هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقاً قريباً أو بعيداً.. وقيل: عن بحوث علْم الكلام: إنه من أجْل العلم بالله سبحانه وتعالى؛ إذ يبحث فيه عن صفاته وأفعاله.. انظر كتاب(التعريفات) ص 236..وقال الكفوي: (الموضوع مخصوص بالعرض(بالعين المهملة).. يقال: موضوع البياض والسواد، وغير ذلك.. ولا يقال: موضوع الجوهر؛ بل يقال: (محل الجوهر).. انظر كتاب (الْكليات) ص827.. وقال أيضاً: (الموضوع هو عبارةٌ عن المبحوث بالعلم عن أعراضه الذاتية) (؛أي:في نفسه).. انظر (الكليات) ص 867.. وقال الدكتور (جميل صليبا): (الموضوع بوجه عام هو المادة التي يبْني عليها المتكلم أو الكاتب كلامه.. تقول: موضوع البحث.. أي مادته.. والموضوع عند (ديكارت)، وعند من تقدمه من فلاسفة العصر الوسيط: هو الأمر الذي تتمثّله في الذهن، فالحقيقة الموضوعية هي الحقيقة التي نتمثّلها ذهنياً بخلاف الحقيقة الصورية المستقلة عن الذهن.. والموضوع أيضاً هو الشيء الموجود في العالم الخارجي؛ وهو ما ندركه بالحواس، ونتصوره ثابتاً ومستقراً ومستقلاً عن رغائبنا وآرائنا، ويقابله الذات [؛ أي نفس الشيء]، وقيل أيضاً : إن الموضوع هو الموجود بذاته ، ويطلق على الشيء المستقل عن معرفتنا به.. والتقابل بين الذات والموضوع كالتقابل بين الأنا واللا أنا)..انظر المعجم الفلسفي 2 /644 .. وقال الدكتور (مجاهد): (الموضوع إطارٌ خارجي للعمل الفني ليس مقصوداً لذاته وإن كان العمل الفني يشير إليه.. إنه مجرد المناسبة التي يظهر عمل الفنان بفضلها؛ ولا يصبح للموضوع معْنىً إلا من خلال رؤية الفنان، ويكتسب معنى خاصاً حسب رؤية كل فنان.. إن الموضوع بالنسبة للفنان هو مجرد مثير خارجي؛ واختيار موضوع ذي أهمية، لأنه يساعد على تحديد وإبراز موقف الفنان.. والموضوع يرتفع ويرتقي بفضل ما يضفيه عليه الفنان من رؤية وموقف؛ فالقمر موضوع خارجي يصبح له معنىً جديداً حسب رؤْية الفنان الخاصة؛ إذْ يرى فيهبيبته، أو يراه متعالياً عن الناس، أو يكون مظهر ضيق لأنه يسطع على الجميع الأشرار منهم والأخيار، أو يكون رمزاً لنشدان المستحيل».. انظر كتاب (دراسات في علم الجمال) ص36 .
قال أبو عبدالرحمن: كانت المقالات في الأسبوع الماضي (33)، لكنني الآن مضْطرٌ إلى حلقة رابعة في السبت القادم إنْ شاء الله تعالى، لاستكمال هذا السياق؛ فجعلت الحلقات(4-4)، والله المستعان.