سهام القحطاني
نظراً لاختلاف الطبيعة البشرية سواء بالأصل أو المكتسب وهو اختلاف أنتج ثقافات وعقائد مختلفة عن بعضها البعض كحصيلة ما تربى عليه العقل الجمعي من تعاليم دينية وأعراف وظرفيات مكان وتاريخ وما ترتب عليها من أساليب معيشية ومظاهر القوى أو الضعف والترقي أو التخلف، إضافة إلى قوة سلطة السائد.
ذلك الاختلاف غالباً يخلق منطقة عمياء بين المختلفين قد تتحول إلى مصدر خلاف وصراع، فأصل الخلاف والصراع عادة سببه المجهول المحيط بالآخر أو الأفكار الخاطئة التي تشعبت حول ذلك الآخر، والذي تكمن معظمها في حصر الآخر داخل دائرة الخطر المحتمل على هوية الأنا، إضافة إلى النزعة الأنانية التي تتحكم في طبيعة الإنسان وتخلق داخله خطيئة الطمع لسلب الاستحقاقات الاستثمارية لقيمة اختلاف الآخر والاستمتاع بها، والغرور في صناعة قوة تضمن له السلطة والهيمنة على المختلف.
ولذا «سُنّت فكرة التقارب الفكري بين المختلفين من خلال إيجاد منظومة متوازنة لاحترام طبيعة الاختلاف وتقدير قيمته» وكوسيلة تفكيك لغموض تلك المنطقة وتعريف المجهول وتصويب الأفكار الخاطئة التي تنمو على فروعها الصراعات.
كما يهدف التقارب الفكري إلى توحيد المنطقة المشتركة بين المختلفين وتجنب الأحادية التي تقتضي إمكانية غلبة ثقافة طرف على طرف، وتلك الأحادية الإجبارية هي التي تُفسد صلاحية التقارب الفكري وتخرجه من إستراتيجية توافق، إلى آلية خلاف وانتقام، أو تحوله إلى «جدلية بيزنطية» تسحب الجميع إلى دائرة الصراع أو الفوضى، لأن الخوض في تفاصيلها أشبه بمتاهة القطة العمياء في الغرفة المظلمة.
إن الاختلاف قيمة في ذاته سواء على مستوى العرقيات أو العقائد أو الثقافات أو الأفكار؛ لأنه يثري التجربة الإنسانية ويوسع إنجازاتها ويصنع حضارة، وذلك ثابت عبر التاريخ، فعندما امتزج المسلمون بعد الفتح بالثقافات المختلفة ثقافة البلدان المفتوحة تبلورت الحضارة الإسلامية التي شارك في تأسيس قواعد ذلك الاختلاف المعرفي.
لكن مع تراجع تقدير قيمة ذلك الاختلاف وتحويله بفعل فاعل إلى خطر مهدد لمجتمع المسلمين بواسطة التزمت الفقهي الذي ضغط المجتمع المسلم في قولبة فاصلة عن الآخر باعتباره مهدداً للبقاء والسيطرة، هنا تحول الاختلاف من قيمة إثراء ومشاركة إلى مصدر خلاف وصراع.
وهذه الدراما السلبية المتعمدة لقيمة الاختلاف ليست قاصرة على المجتمع المسلم، بل هي غالبة على كل مجتمع ديني، كما حدث للهنود الحمر على يد المسيحيين الأوروبيين الذين غزو أمريكا، وكما حدث لليهود على يد النازية الألمانية التي كانت حصيلتها المحرقة وكما يحدث اليوم من الإسرائيليين ضد الفلسطينيين.
إن تصفية المختلف هي تجربة تاريخية متكررة وليست محصورة بصلاحية زمنية، وآخرها نظرية «صدام الحضارات وتشكيل النظام العالمي» لصامويل هنتنجتون.
النظرية التي اعتمدت على أن «الاختلاف العقدي والثقافي» بين الأمم سيظل مصدراً لخلق الصراع وتهديد الآخر، وخاصة مع انعدام توازن القوى التنافسية بين المختلفين.
إن الخوف من الآخر هو الذي أسس تلك النظرية، وهي التي حوّلت الاختلاف إلى مصدر صراع، وصنعت منه «فوبيا ثقافية» بحيث يصبح أي تقارب فكري بين الطرفين قطة عمياء، كل من الطرفين يتهم الآخر بتعمده لتصفية المختلف من خلال إجبار التوحد معه، أو كل منهما يريد أن يؤكد للطرف الآخر أن عقيدته هي الأصح وثقافته هي الأصلح وسلوكياته هي الأرقى، وقوانينه هي الأنفع.
وربط الاختلاف بفكرة الأفضل «التي تتميز بخاصية القوة والترقي والحرية» وفكرة الأسوأ «التي تتصف بالضعف والتخلف والرجعية والتطرف» هو الذي يقود أي مواجهة فكرية بين المختلفين وهو ذاته الذي يخلق ثنائية السالب والموجب.
تلك الثنائية هي التي تحول المواجهة الفكرية إلى فوضى؛ لأنها تلغي فرصة التكافؤ الافتراضي الذي يجب أن تقود تلك المواجهة، ولأنها تتعمد فرض بناء مصفوفة تقوم على التمكين لا التوازن، الانفراد لا التشارك، التطابق لا التنوع.
وهو ما يحول تلك المصفوفة إلى مؤسس لعناصر الأقليات والتمييز والحقد العنصري والاضطهاد الثقافي ثم العنف والإرهاب، فكل الأشياء الشريرة تبدأ من تلك المصفوفة.
تنبني «فكرة الاستعلاء» التي تسير في ضوئها عقيدة الأفضل على»أنّسنة الاختلاف»؛ أي تحويله إلى صياغات توصيفية وتقديرية وسلم من التصنيفات والرتب؛ لتجريد الاختلاف من قيمته، وهذا واضحاً من خلال سلسلة الخبرات التاريخية للشعوب فالعرب مثلاً مارسوا هذا الاستعلاء سواء في جاهليتهم أو في الإسلام، فتقدير الاختلاف غالباً عندهم يُصنّف مرتبة دنيا مقابل القيمة الاستعلائية للعرق العربي والتي خلقت توصيفات مثل العبيد والموالي، ظهرت في كثير من الشعر العربي، وبعد الإسلام تم استبدال «الاستعلاء العرقي» «بالاصطفاء الديني» ليصبح الاختلاف كمؤشر للأدنى «الكافر ثم الشيعي» وهو ما أدى بالتقادم إلى التمييز الطائفي والمذهبي في المجتمعات المسلمة، وهذا حال كل الأمم دون استثناء.
وكما يحدث اليوم للعرب من أمريكا والغرب إذ يُستغل اختلافهم العقدي والثقافي لقولبتهم داخل معايير توصيفية وتصنيفية لإثبات خطرهم على الحضارة الإنسانية التي تمثلها القيم الاستعلائية للحضارتين الأمريكية والغربية.
أي حيثما يوجد الاختلاف تبرز تلك الاستعلائية، لتصنع ثنائية متضادة مكونة منظومة من المؤشرات المقاسة لتجربة التمييز والصراع المستمرة، التي يشترك الفن والإعلام في توثيقها وتأجيجها، مثل تفعل أيضاً القرارات السياسية والتعاليم الدينية، لتصبح أي مقاربة فكرية، كقطة عمياء في غرفة مظلمة.