محمد عبد الرزاق القشعمي
وفي العصر الحديث كانت البدايات الأولى للترجمة والتي بدأت في مصر.. وإثر تداعيات الحملة الفرنسية على مصر مع نهايات القرن الثامن عشر الذي لم يدم طويلاً ولم يبق منه سوى المطبعة وأصداء اكتشاف (شامبليون) لحجر رشيد على الحضارة العالمية، وبعد خمسة وعشرين عاماً على رحيل نابليون ومعه أكثر من مائة ألف جندي عائداً إلى فرنسا مهزوماً، ولكنه ترك آثاراً وصوراً من أوروبا وحضارتها وأسلوب حياتها وقوتها العسكرية والعلمية، ومع اختلاف بين من يراها غازية فاتحة ومن يرى عكس ذلك أنها مفيدة ومجددة في حياة المصريين..
مما دعا والي مصر محمد علي باشا إلى إرسال أول بعثة طلابية إلى فرنسا عام 1826م إلى فرنسا ليتعلموا وينهلوا من المعارف الحديثة ويعودوا ليفيدوا بلدهم. وكان للشيخ حسن العطار (1766 - 1835) رئيس مشيخة الأزهر دور في إقناع الوالي بأن يبعث مع الطلاب المختارين للبعثة إماماً يبصرهم في باريس بأمور دينهم ويؤمهم في الصلاة ويرعى شؤونهم. وكان ذلك من حظ الشيخ الشاب رفاعة رافع الطهطاوي (1801 - 1873) - نسبة إلى قريته طهطا بمحافظة ألمانيا بمصر - وقد أوصاه شيخه العطار بتسجيل كل شيء يلفت نظره فقد يحتاجه فيما بعد، إذ كان يتنبأ له بالنبوغ والبروز مذ كان طالباً وحريصاً على مطالعة الكتب الغربية التي تتداولها أيدي غالبية شيوخ الأزهر مما نقله من التقليدية إلى التجديد.. وهكذا أقبل مع الطلاب على تعلم اللغة الفرنسية وبها قرأ التاريخ والجغرافيا والأدب، فنقل إلى العربية مترجماً ما يراه مهماً من علوم عسكرية وهندسية وطبيعية وكيمياء إلى جانب الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة. وكانت فترة حاسمة في حياة الشيخ رفاعة وتشكل منعطفاً مهماً إذ عكف طوال الخمس سنوات على امتلاك ثقافة موسوعية وتأثر وانفعل بالنهضة الفكرية الحديثة للأعلام البارزين مثل (مونتسيكو وجان جاك روسو) وترجم عنهم، وعند عودته مع البعثة إلى مصر 1831م كان يحمل مترجماته ومعها مسودة لكتابه الشهير (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).
وهو على صورة بحث اجتاز به الامتحان النهائي الذي عقد في التاسع عشر من أكتوبر 1830م الذي قال عنه أحد أساتذته: أراد به أن يوقظ أهل الإسلام ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي والترقي في صنائع المعاش. أما هو فقد قال في مقدمته إنه يقصد - أن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم، إنه سميع مجيب وقاصده لا يخيب.
أطلع محمد علي باشا على الكتاب فأمره بترجمته وتوزيعه على الأعيان والوجوه، ومطالعته في المدارس المصرية حتى أصبح بداية الريادة لذلك الجهد الفكري الذي أيقظ به الطهطاوي الأمة ونقلها من العصور المظلمة إلى عتبات عصرها الحديث، متجهاً في ذلك إلى تثبيت قناعاته الكامنة في ضرورة التقريب بين الأحوال الإسلامية والغربية.
وبفضل ما نقله من علم ومعرفة أسست مدرسة الألسن وتولى إدارتها سنة 1835م لترجمة كل جديد نافع إلى جانب توليه تحرير جريدة الوقائع المصرية، وهي الجريدة الرسمية للدولة.
واستمرت بعد ذلك الترجمة في مصر حتى وصلت إلى المشروع القومي للترجمة عام 1995م الذي ترجم أكثر من ثلاثين لغة معاصرة ومنقرضة. ثم استبدل اسمها إلى المركز القومي للترجمة عام 2007م.
هذا وقد كتب شايع الوقيان مقال (الترجمة في العصر الحديث) قال فيه بعد استعراض لدور مدرسة الألسن بمصر قال إن الترجمة في العالم العربي تتخذ أشكالاً أهمها ما يلي:
1-الترجمة الحضارية هي امتداد للجهود التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وهي تهدف إلى تعريف القارئ العربي بأبرز العلوم والمعارف والفنون والآداب التي سادت العالم في تلك الأزمنة. من هنا كان المترجمون في هذه الفترة - ولا زالوا - غير مدفوعين بدوافع أيديولوجية أو سياسية واضحة كما سنرى لاحقا في الترجمة الأيديولوجية. فالدافع الأبرز هو نقل ما أمكن نقله من معارف متنوعة إلى العرب. والهدف المعلن هو النهضة الحضارية الشاملة. من أبرز المترجمين لهذه الفترة مفكرو عصر النهضة الأولى وما تلاها؛ مثل أحمد فتحي زغلول الذي ترجم كتابين لغوستاف لوبون، وكتابا للفيلسوف الإنجليزي الشهير جيرمي بينتام. ومنهم: فرح أنطون، وإسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب دارون «أصل الأنواع». ويمكن اعتبار أحمد أمين وأبو العلاء عفيفي وعثمان نويه وأحمد حمدي محمود من المترجمين لأغراض ثقافية وتنويرية. أضف إلى ذلك أغلب ترجمات الآداب والروايات والأشعار .. فهي تدخل في هذا النمط.
2-الترجمة الأيديولوجية هي ترجمة سياسية أو حزبية.. والأهداف المعلنة والمضمرة كلها تصب في صالح الحزب أو الأيديولوجيا التي يتبعها المترجمون، سواء أكانت ماركسية أو قومية أو إسلامية أو وطنية. وقد كان ظهور هذا النوع مرتبطا بظهور الحركات التحررية والمناهضة للاستعمار والأنظمة المؤيدة له. ولا يعني إعطاء هذا النوع طابعا حزبيا أن الترجمة سيئة، بل إنها فقط محكومة ببواعث حزبية وسياسية. من أمثلة هذا النوع أغلب ترجمات الكتب اليسارية والماركسية، وإلياس مرقص وترجمته لكتاب لوكاتش «تحطيم العقل» وهو من أربعة أجزاء ضخمة. ترجمة جورج طرابيشي لكتابات سارتر السياسية أو غيره من المفكرين الثوريين مثل لوكاتش. وكذلك سهيل إدريس الذي يعتبر من أبرز المهتمين بنقل الفكر الوجودي. وترجمة أحمد الشيباني لكتاب شبنجلر «تدهور الغرب» داخلة ضمن الترجمة الأيديولوجية.
3-الترجمة الأكاديمية أو العلمية فهي التي أنجزت على أيدي أساتذة جامعات أو متخصصين في المجال الذي ينقلون عنه. ومما تمتاز به أن المترجم يركز بالعادة على موضوع معين ويكون عمله هو نقل كل ما يتصل بهذا الموضوع. والهدف من هذه الترجمة أكاديمي، أي إنه ليس موجها للقارئ العام ولا للقارئ الحزبي.. بل للمتخصصين من كتاب وقراء وطلاب. أبرز الأمثلة هنا: عبدالرحمن بدوي الذي تخصص في الفلسفة الوجودية، ونقل كتاب سارتر «الوجود والعدم». ومشروع مطاع صفدي لنقل الفكر ما بعد الحداثي، وإمام عبدالفتاح إمام الذي تخصص في الفكر الهيجلي، ويشاركه الاهتمام المترجم مجاهد عبدالمنعم مجاهد. وعبدالغفار مكاوي واشتغاله على هيدجر، وأحمد الأنصاري وتخصصه في نقل مؤلفات الفيلسوف الأمريكي جوزايا رويس.. وأخيرا عزمي إسلام وعنايته بالفكر الوضعي والمنطقي مستلهما أستاذه زكي نجيب محمود. إن هذه الأشكال تتداخل بلا شك.. فقد يكون الهدف من الترجمة سياسيا وحضاريا في الوقت ذاته، ويقوم عليه مترجم متخصص ومحترف( ).
أما في المملكة العربية السعودية فالترجمة بدأت ببوادر فردية واجتهادات قد يكون المثير منها هو الدافع، ثم بدأت الجامعات ولو بشكل متواضع إلى أن جاءت جائزة الملك عبدالله للترجمة مؤخراً عام 2006م لتدفع وتشجع على الإسهام في نقل المعرفة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، ومن اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، وذلك لإثراء المكتبة العربية بنشر أعمال الترجمة المميزة، مع النهوض بمستوى الترجمة وفق أسس مبنية على الأصالة والقيمة العلمية وجودة النص.
وقد بدأت لجنة الجائزة من عام 2007م بتقديم الجوائز لمن يستحقها سنوياً من العلماء المترجمين من مختلف دول العالم، أفراداً ومؤسسات وفق ستة محاور هي:
1 - جائزة الترجمة لجهود المؤسسات والهيئات.
2 - جائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية.
3 - جائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى.
4 - جائزة الترجمة في العلوم الطبيعية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية.
5 - جائزة الترجمة في العلوم الطبيعية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى.
6 - جائزة الترجمة لجهود الأفراد.
ولعلي بالمناسبة أطرح فكرة التنسيق والتواصل مع المؤسسات المعنية بالترجمة في الوطن العربي والمعاهد والمراكز المعنية بالخارج مثل معهد العالم العربي بباريس لوضع استراتيجية متكاملة وأولويات للمعارف والعلوم المهم نقلها إلى العربية وبالعكس. إلى جانب المشاركة مع دور النشر العالمية والمهمة والمهتمة بالترجمة على شكل عمل مشترك تتحمل الجهة المهتمة والمعنية بما يترجم جزءاً من تكاليف الترجمة والنشر واقتناء كمية مما طبع لتوزيعه على المؤسسات والجامعات والمكتبات العامة - لا تخزينه ونسيانه - فالهدف هو نشر العلم والمعرفة ولعلي أذكِّر فقط بكتابين صدرا قبل سنوات طويلة ونسيا ولم يأخذا حقهما بالانتشار أو الترجمة وهما كتاب (ذكريات باريس) لعبد الكريم الجهيمان رحمه الله الذي ألفه هناك عام 1951م واعتقد أنه أول سعودي يؤلف كتاباً عن فرنسا قبل أكثر من ستين عاماً، صحيح أنه لم ينشر بالعربية ويرى النور إلا قبل 38 عاماً. والآخر مذكرات خليل الرواف الذي يروي ذكرياته في أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية، وغيرهما كثير فلو ترجما وغيرهما إلى اللغات الأخرى ليعرف العالم أن للعرب دوراً في مثل هذا العمل ولا يكتفى بما يكتبه الرحالة والمستشرقون الغربيون من معلومات وانطباعات قد تكون مغلوطة.
وأذكر أنني سمعت من (واسيني الأعرج) أن هناك دار نشر فرنسية هي (سندباد) تتعاون معها الحكومة الجزائرية في أعمال نشر مشتركة من وإلى اللغة الفرنسية وتتحمل جزءاً من تكاليفها المالية. فلو اتفقت الجهات المعنية في الوطن العربي وتضافرت الجهود لقدمنا عملاً يليق بنا إلى الآخر.