د. حمزة السالم
الشرف خلق غير ملموس مادة ولا محسوب رقماً.. وأما المال فهو مادة ملموسة محسوبة، ولذا كان الحفاظ على إرث الشرف أصعب من الحفاظ على إرث المال. وكلا الإرثين يخلق السفاهة والجهل والكبر في الأبناء إن هم أخذوه بلا مشقة، ثم بعد ذلك أُعطوا ضماناً بعدم زواله، أو ظنوا كذلك.
وهذا ما أدركته المجتمعات المتطورة الحديثة اليوم، فتراها اليوم قد تقدمت تقدماً هائلاً في نبذ وهجر هذه الجاهلية المنتنة لأن عقلاءهم قد سبروا التاريخ والواقع، فتيقنوا يقيناً أن الامتيازات التي يحصل عليها الفرد من مجتمعه -لمجرد أنه حصل وصدف أنه وُلد نسيبا لشرف أبيه أو جده- هو من أسباب تدهور المجتمع وتعطل تطوره وتقدمه. والبشرية كلها من قديم، وليس المجتمعات الحديثة اليوم فقط تدرك بالتجربة الماثلة أمام أعينهم، فضلاً عن التاريخ، بأن الواقع المطبق غالباً ما يؤكد بأن إرث شرف النسب عادة ما يكون الأقل تعهداً وصيانة من بين الموروثات التي يرثها الأبناء فيما يرثونه عن آبائهم وأجدادهم، وفي هذا المعنى قال المتنبي:
«أرى الأجداد تغلبها كثيراً
على الأولاد أخلاق اللئام»
ولم تعاند المجتمعاتُ الحديثةُ الفطرةَ، الإنسانية السليمة الحميدة، المتمثلة بأن النفس السوية تُحب من أحسن إليها. وأعظم الإحسان، الإحسان للأوطان. لذا تجد في أعرافهم وثقافتهم التأكيد على وجوب الوفاء بتشريف أبناء وأحفاد من استحق الشرف فيهم. ولكنهم حرصوا أن لا يكون ذلك الوفاء على حساب تدهور أخلاق المجتمع وإعاقة تقدمه العلمي والاقتصادي بتقديم من لا يستحق شرف التقدم. وبالمقابل، فقد أدرك ساداتهم وشرفاؤهم، أن المحافظة على إرث الشرف أشق وأصعب من المحافظة على إرث المال. كما أدركوا أن شرفهم هو مجرد مفتاح يفتح لأبنائهم أبواب فُرص الحصول على الشرف، لا شرعية مضمونة للسيادة القيادية والعلمية كما هي حال المجتمعات المتخلفة.. فعلموا أبناءهم وبناتهم وبذلوا أوقاتهم وذكاءهم في تأهيل أبنائهم لحمل إرث الشرف من بعدهم. فترى غالب الجامعات العريقة مليئة من أبناء الشرفاء والسادة، التي لم يكن لهم أن يدخلوها غالباً لولا الفرصة التي وُلدت معهم بكونهم من أبناء الشرفاء الذين بذلوا المال والجهد لتأهيلهم علمياً وعقلياً لدخولها.. ثم ترى هؤلاء الأبناء بعد ذلك، وهم يخوضون معترك الحياة في منافسة عملية شديدة في أرقى المنظمات التي ما كان لهم أن ينضموا إليها لولا أن اجتمع لديهم إرث الشرف مع ما حققوه من شرف بتخرجهم من تلك الجامعات العريقة. وبهذا تحقق العدل والتوازن، (فلا يخفى على أحد اثر العلاقات في فتح أبواب الفرص لأبناء السادة والأشراف هناك، وفتح الباب للفرصة ليس كضمانها والخلود فيها).
وبهذا لم تجحد تلك المجتمعات فضل الآباء والأجداد فتحرم الأبناء من إرثهم من الشرف، بل أعانتهم على الحفاظ عليه وذلك بعدم ظلم المجتمع بتسليط الجُهّال أو السفهاء من أبناء الأشراف فتجعلهم على رؤوس الناس فتفسد البلاد والعباد.