أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
تحظى المملكة العربية السعودية منذ عهaد المؤسس الأول الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- بعناية جليلة، إذ اتسمت مسيرته التنموية بالتوازن والشمولية والاسترشاد بتعاليم الدين الحنيف وقيمه السامية، فتمكنت المملكة العربية السعودية في حقبة صغيرة لا تُرى بعين الزمن، من تحقيق التوازن بين التطور الحضاري والعمراني والاقتصادي وبين المحافظة على المبادئ والقيم الدينية والأخلاقية، كان ذلك من خلال مسيرة بناء نفذت خططاً ناجحة للتنمية، حققت قفزاتٍ سريعة هائلة، ونهضة حضارية شاملة، أخذت بيدها إلى مرحلة نمو سريع، نُفِّذَت فيها العديد من التجهيزات الأساسية من طرقٍ وموانئ ومرافق ومطارات، وخدمات أخرى، اختصرت الجهود وقلَّصت الأوقات في تنفيذ مشروعات عملاقة حوتها خطط التنمية المتتالية، تضاعف الإنفاق عليها مع ازدياد دخل المملكة العربية السعودية.
وجاء أبناؤه من بعده فتولوا مقاليد الأمور في المملكة حتى هذا العهد الزاهر الميمون، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، فنالت المملكة العربية السعودية تقديرًا عالميًّا، فأصبحت لها قدم راسخة، أرست لها مكانة مرموقة بين الدول والمجتمعات الإسلامية، تمثّلت تلك العناية في مشاريع تطوير المقدسات الإسلامية، خاصة الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، عناية تبرز حرصها على تفعيل الشرف الذي تناله من رب العزة جلّ وعلا، الذي شرَّفها بخدمة مقدسات المسلمين وحمايتها.
وغير خافٍ على ذوي الألباب، ما يقدّمه وطننا الغالي من جهود عظيمة ومشروعات جسيمة نافعة ناجحة، اتخذت من خدمة الإسلام والمسلمين هدفًا لها في شتى أنحاء المعمورة, وتلك نعمة جليلة يَمُنُّها الله -جلَّ وعلا- علينا، ومكانة رفيعة خصَّها الله تعالى بولاة أمر هذه البلاد المباركة من عهد مؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله - إلى عهود أبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله -رحمهم الله جميعاً- وصولاً إلى عهدنا الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله ورعاه-, فقد أدركوا جميعًا تلك المسؤولية العظيمة، والأمانة الثقيلة فلم يُؤلوا جهداً، ولم يدَّخروا وسعًا, وبذلوا الغالي والنفيس, وسخروا الأموال والرجال, فجزاهم الله عنًّا خير ما جزى راعيًّا عن رعيته.
ومَعْلَمٌ من أعظم المعالم، وشاهدٌ من خير الشواهد ينطق على كل جاحد بالحق، تلك الخدمة العظيمة التي تسديها المملكة العربية السعودية للحرمين الشريفين، مكة المكرمة والمدينة المنورة، إذ هما بقعتان مباركتان فيهما أعظم وأشرف مسجدين المسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف، وجهة المسلمين في العالم أجمع، فقد لقيا عناية أيّما عناية جليلة، واهتمامًا منقطع النظير من ولاة أمر هذه البلاد -أكرمهم وأعزهم الله-, فقد بدأ الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- في تحسين وترميم الحرم المكي الشريف عام 1354هـ فورًا بعد تأسيسه المملكة العربية السعودية, شمل ذلك صحن الطواف والمسعى وجميع أروقة وجدران ومآذن وقِباب الحرم المكي الشريف، كما أنشأ سبيلين لماء زمزم, كما أصلح حجر أرض مدار المطاف, والأروقة، ووَجَّه جلالته بترميم وترخيم المسجد بوجه عام وتجديد ألوانه, وإزالة كل ما به من تلف، وأضيء في عهده المسجد الحرام، وعُلِّقَت به المراوح الكهربائية.
وعندما زار - رحمه الله- المدينة المنورة عام 1348هـ وقف على الحرم النبوي الشريف فلاحظ في المسجد بعض التصدّعات والخدوش والتشققات على جدرانه وحوائطه، فأمر بترميمها وتجديدها، كما أمر بصيانة جميع ما يلزم لمرافق الحرم النبوي الشريف, ثم جاءت توجيهاته بتوسعة المسجد النبوي الشريف في عام 1368هـ بعد أن ضاق على المصلين.
وسار أبناؤه الأبرار من بعده على ذاك النهج، وعلى تلك الطريق في صيانة المسجد الحرام والمسجد النبوي وتوالت الترميمات والتوسعات، فأشرفوا عليها بأنفسهم، ليروا ما جرى من أعمال وما بقي منها، وما يحتاج إلى تعديل أو تبديل، وكانوا كثيري الاهتمام -رحمهم الله - فقدموا الكثير من أوقاتهم حتى صار الحرمان الشريفان على أتقن تصميم، وأجمل تشكيل، وأبهى حُلَّة، فأنفقوا الكثير والكثير، وتواصلت قصص العناية والاهتمام، فاتخذوا من لقب خادم الحرمين الشريفين سُلَّم عزٍّ وشرفٍ سَطَّرهُ التاريخ لهم صفحاتٍ مضيئة، فسخَّروا كل إمكاناتهم وطاقاتهم لأعمال الخير، وعلى رأسها خدمة بيوت الله - جل وعلا- إذ عَلِمُوا أنها مدارسَ للمجتمع، ومقاصدَ للمسلمين، فالتمسوا فيها رضا الله -جلّ وعلا، واهتموا بتعبيد الطرق وإنشاء الأنفاق، وإقامة الجسور، وتوفير المياه المبردة والمستشفيات المتنقلة في كل مكان، ووسائل الاتصالات الحديثة، ووسائل النقل المريحة المكيفة، وتسهيل إجراءات الدخول والمغادرة عبر البوابات البرية والبحرية والجوية للمملكة، واعتنوا -أعزهم الله- بمواسم الحج، وضيوف الرحمن، واستقبالهم وإكرامهم والسعي لراحتهم، وأقاموا التوسعات الفخمة الضخمة ليحتوي الحرمان الشريفان الملايين من الحجاج.
وفي هذا العهد الميمون, عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدا لعزيز -حفظه الله- يتواصل الاهتمام والمتابعة منه شخصياً لتذليل كافة العقبات في سبيل عمارة الحرمين الشريفين وسهولة الوصول إليهما وتوسعتهما ليؤدي حجاج ومعتمرو وقاصدو مكة والمدينة مناسكهم بكل يسر وسهولة وأمان واطمئنان, وقد أمر -حفظه الل- بإكمال جميع التوسعات في الحرم المكي والتي بدأت في عهد الملك عبد الله -رحمه الله-، كما دشَّن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- خمسة مشروعات جديدة ضمن التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام بمكة المكرمة، وتشمل هذه التوسعة التاريخية بإجمالي المسطحات لكامل المشروع 1.470.000 متر مربع ليتسع المسجد الحرام لأكثر من 1.850.000 مصلٍ، وللمشروع بوابات أوتوماتيكية تُدار من غرف خاصة للتحكم بها عن بعد بإجمالي عدد أبواب المشروع 78 بابًا بالدور الأرضي تحيط بمبنى التوسعة.
ويحتوي على أنظمة متطورة منها نظام الصوت بإجمالي عدد سماعات يبلغ 4524 سماعة، وكذلك نظام إنذار الحريق ونظام كاميرات المراقبة بإجمالي عدد كاميرات يبلغ 6635 كاميرا لكامل المبنى وأنظمة النظافة كنظام شفط الغبار المركزي. لترتفع الطاقة الاستيعابية لصحن المطاف من (19) ألف طائف في الساعة إلى (30) ألف طائف في الساعة، ليبلغ عدد الطائفين في جميع أدوار الحرم إلى (107) آلاف طائف في الساعة الواحدة.
ويستمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- في السير على تلك الخطى الكريمة فيتابع ذاك الاهتمام بمشروع مظلات المسجد النبوي التي أمر بها - أيَّده الله - وهي من المشروعات العملاقة، إذ جاءت توجيهاته الكريمة بتصنيعها وتركيبها على أعمدة ساحات المسجد النبوي الشريف التي يصل عددها إلى 182 مظلة، ثم الأمر بإضافة 68 مظلة في الساحات الشرقية، لتغطي هذه المظلات مساحة 143 ألف متر مربع من الساحات المحيطة بالمسجد من جهاته الأربع يصلي تحت الواحدة منها ما يزيد على 800 مصل، يضاف إلى ذلك تظليل ستة مسارات في الجهة الجنوبية يسير تحتها الزوار والمصلون وهذه المظلات صنعت خصيصًا لساحات المسجد النبوي على أحدث تقنية.
وهذا سليله وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله ورعاه- ذو الهمة العالية، والعزيمة القوية، والإصرار على تخطي الصعوبات، ذو الرؤية الصائبة، قائد برنامج الإصلاح، قد أدرك أن المملكة العربية السعودية حازت مكانة عظمى في قلب كل مسلم في العالم أجمع، فجاء اهتمامه بالتراث الوطني، إذ وجه سموه بتأهيل وترميم 130 مسجداً تاريخياً، ضمن برنامج (إعمار المساجد التاريخية) الذي تشرف عليه الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالشراكة مع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، ومؤسسة التراث الخيرية، ليمثّل دعمًا كبيرًا للبرنامج لتحقيق أهدافه في ترميم وإعمار أكبر عدد من المساجد التاريخية المستهدفة على مستوى مناطق المملكة، فهي من أهم مواقع التاريخ الإسلامي المنتشرة في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية، وتعد مناطق سياحية وتراثية وثقافية ودينية مهمة؛ لا سيما أن هذه البلاد قد شهدت بزوغ فجر الدين الإسلامي، وشُيِّدت فيها أولى دور العبادة الإسلامية، على أيدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن جاءوا من بعدهم، فالمساجد من أهم المواقع الإسلامية التاريخية المهمة في المملكة العربية السعودية، تنتشر المئات منها في مختلف مناطقها، ومن أهمها منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويعمل هذا البرنامج على ترميم وتأهيل وصيانة، ووضع خطط لحماية تلك المواقع التاريخية، إذ إن ذلك من أسمى أهداف رؤية المملكة 2030 فقد جاء في نصها ما يلي تحت عنوان: مجتمع حيوي: قيمة راسخة: (نفتخر بهويتنا الوطنية): «إننا نفخر بإرثنا الثقافي والتاريخي السعودي والعربي والإسلامي، وندرك أهمية المحافظة عليه لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ القيم العربية والإسلامية الأصيلة. إن أرضنا عُرفت - على مرّ التاريخ- بحضاراتها العريقة وطرقها التجارية التي ربطت حضارات العالم بعضها ببعض، مما أكسبها تنوعاً وعمقاً ثقافياً فريداً. ولذلك، سنحافظ على هويتنا الوطنية ونبرزها ونعرّف بها، وننقلها إلى أجيالنا القادمة، وذلك من خلال غرس المبادئ والقيم الوطنية، والعناية بالتنشئة الاجتماعية واللغة العربية، وإقامة المتاحف والفعاليات وتنظيم الأنشطة المعززّة لهذا الجانب.
كما سنستمر في العمل على إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي والقديم وتسجيلها دولياً، وتمكين الجميع من الوصول إليها بوصفها شاهداً حياً على إرثنا العريق وعلى دورنا الفاعل وموقعنا البارز على خريطة الحضارات الإنسانية».
فذاك وعد منه -حفظه الله- وهذا وفاء، كما يهدف هذا البرنامج إلى توظيف مواقع التاريخ الإسلامي بطريقة مثلى، تبرز ظهور رسالة الإسلام الخالدة والسيرة العطرة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم، وحماية لمواقع التاريخ الإسلامي، من خلال تأهيلها وتطويرها، والعمل مع الإدارات المعنية لتنفيذها..
ويهدف أيضاً إلى توظيف تلك المساجد بطريقة مثلى، إذ هي شاهدة على مآثر الإسلام الخالدة والقصص التاريخية العظيمة، لتصبح واقعاً معيشاً يستلهم من خلالها المسلمون أعظم المعاني وأسمى القيم.
وذلك تعزيز وتوثيق للبعد التوعوي والحضاري والتاريخي لتلك المساجد باعتبارها مآثر تاريخية؛ حتى تكون فائدة علمية تربط الدارسين بالتاريخ الإسلامي المبني على التراث المادي والمعلومات التاريخية الموثقة.
ويعدُّ برنامج «إعمار المساجد التاريخية» من أهم البرامج المعنية بالمحافظة على مواقع التاريخ الإسلامي في المملكة، الذي وافقت الهيئة على تأسيسه ضمن هيكلها في شهر المحرم من عام 1437هـ، لا سيما أن هذا البرنامج يهدف إلى المحافظة على المساجد التاريخية والعناية بها وإعادة تأهيلها وإظهار قيمتها الدينية والحضارية والعمرانية.
وتقود الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ومؤسسة التراث الخيرية إلى جانب عدد من الشركاء، وفي مقدمتهم وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ووزارة الشؤون البلدية والقروية، جهوداً كبيرة في ترميم المساجد التاريخية، إذ حُصِر نحو 800 مسجد تاريخي وأثري.
وتمكن البرنامج من ترميم 21 مسجداً تاريخياً في الرياض، عسير، والمنطقة الشرقية، والمدينة المنورة، وجدة، وينبع، ومسح 87 مسجداً تمهيداً لإعداد دراسات الترميم، فضلاً عن الانتهاء من دراسات ترميم 8 مساجد تاريخية أخرى.
وجاء تأسيس هذا البرنامج ليمثِّل نقلة جديدة للبرنامج الذي تبنته مؤسسة التراث الخيرية منذ أكثر من 17 عاماً، ورُمِّمَ عددٌ من المساجد التاريخية وجرى تأهيلها في مختلف مناطق المملكة.
ويمثِّل البرنامج الوطني للعناية بالمساجد التاريخية أحد أبرز البرامج القائمة والفاعلة في حماية التراث العمراني؛ من خلال ما يشهده من مشروعات يجري تنفيذها حالياً في مختلف مناطق المملكة بهدف الحفاظ على المساجد التاريخية؛ نظراً لمكانتها العظيمة في الدين الإسلامي الحنيف، ولتميز طابعها المعماري الأصيل، إضافة إلى كونها أحد أهم معالم التراث العمراني في المملكة.
وحظي البرنامج بدعم من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، إذ أعلن الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، عن تبرع العاهل السعودي بنفقات ترميم مسجد الحنفي التاريخي في جدة، كما أعلن عن رعاية خادم الحرمين لبرنامج خاص للعناية بالمساجد التاريخية في محيط مشروع الدرعية التاريخية، الذي يشمل ترميم 34 مسجداً تاريخياً تعمل على إنجازه كل من الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ووزارة الشؤون الإسلامية والهيئة العليا لتطوير منطقة الرياض.
وهكذا تستمر مسيرة العطاء الفياض، لتأخذ بأيدينا إلى عصر زاهر، يضمن الرقي لأبناء وطننا المبارك وحياة كريمة، في ظل ولاة أمرنا -حفظهم الله-، أولئك الذين يسهرون لراحة أبنائه، ويطرقون كل باب ليبقى شامخاً عزيزاً، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
حفظ الله ولاة أمرنا، وحفظ لبلادنا عِزَّهَا وأمْنَهَا ورخاءَها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.