د. عبدالحق عزوزي
كثيراً ما يسألنا الطلبة في الجامعات عن الأسرار الحقيقية التي يمكن أن تفسر التقدم الصناعي في بعض الدول. ودائماً ما أجيبهم أن السر يكمن أولاً في العلم وثانياً في العلم وثالثاً في العلم. فاليابان دولة مساحتها محدودة جدة ولكنها تمثِّل ثاني اقتصاد العالم، ولا يخلو بيت من بيوتات العالم إلا وتجد آلة أو حاسوباً أو هاتفاً صنع في هذا البلد؛ فاليابان عبارة عن مصنع كبير قائم على العلم وعلى الإستراتيجية الثاقبة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية، يستورد كل المواد الخامة لإنتاج مواد مصنّعة تصدرها لكل أقطار العالم؛ ونأخذ بلدة أوروبية وهي سويسرا. فبالرغم من عدم زراعتها للكاكو فإنها تنتج وتصدر أفضل شوكولاتة في العالم؛ كما أنه رغم طبيعة جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية فإنها تنتج أهم منتجات الحليب في العالم. كما يمكن أن نرى اليوم كيف أن دولة مثل الهند بدأت تستفيد من تطور بحثها العلمي ومن الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا المتطورة؛ كما أن بعض المحلّلين الاقتصاديين يتنبأون بأن الهند يمكن أن تحتل اقتصادياً الرتبة الثالثة عالمياً في حدود 2030 نظراً للتطور الهائل الذي يشهده القطاع الخاص الهندي؛ فليس هناك فرق بين الأجناس والشعوب لأننا جميعاً أبناء أبينا آدم، ولنا نفس القابليات الفكرية، ولكن الفرق يكمن في العلم... فالمطلوب اليوم من العديد من دول العالم هو تطوير علومها، لأن تقدّم الأمم يكون أولاً وأخيراً بالعلم...
وللأسف الشديد توجد فجوات كبيرة بين ما حققته الأنظمة التعليمية في الوطن العربي، وبين ما تحتاجه المنطقة في عملية التنمية الاقتصادية؛ كما أن أحد أسباب ضعف العلاقة بين التعليم وضعف النمو الاقتصادي هو انخفاض مستوى التعليم بشكل كبير؛ وهناك تخلّف للمنطقة العربية في اكتساب المعرفة ناهيك عن إنتاجها، ولذا فإن على كل مجتمع وقطر عربي أن يسعى إلى تطوير هذا المورد الإنساني الذي لا ينقص، بل ينمو باستعماله...
كما أنه على كل المجتمعات العربية أن تكافئ بشكل جلي، اكتساب المعرفة وتوظيفها من خلال التعليم والتعلّم والبحث والتطوير الثقافي، وجميع صنوف التعبير الأدبي والفني؛ ويجب تطوير البنى المجتمعية القائمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وللرقي بحظ المجتمع في اكتساب المعرفة الصحيحة ولإقامة مجتمع معرفي يصبو إلى تأسيس نمط إنتاج المعرفة عوضاً عن هيمنة نمط الإنتاج التقليدي ولإقامة مبدأ ناظم لجماع الحياة البشرية، ولتتحول الثروة المعرفية إلى رأسمال معرفي؛ كما أن على الدول العربية التفكير في أولويات المرحلة وهي الاستثمار المثمر في العامل البشري والرقي به إلى أسمى معاني التطور والتكوين والتعليم والاستثمار الصحيح في البحث العلمي؛ ويجب الارتقاء بجودة تدريس العلوم والتقنيات على مستوى المناهج وفي جميع المسالك الدراسية، وذلك أيضاً بتشجيع النهج القائم على التجربة والملاحظة والتمييز والتفكير من أجل الحصول على استيعاب جيد للمعارف وتنمية الثقافة العلمية والتقنية... فالنشر المنهجي لهذه الثقافة، كما تؤكد ذلك بعض التقارير الدولية الجادة، ينبغي أن تصبح له مساهمة ملموسة في تنمية الأوطان العربية.
ولا يخفى على كل متتبع لبيب أن هناك ضرورة النشر الكامل للتعليم راقي النوعية، مع إيلاء عناية خاصة لطرفي المتصل التعليمي وللتعلّم المستمر مدى الحياة؛ وهناك ضرورة توطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير الثقافي في جميع النشاطات المجتمعية؛ وهناك ضرورة التحول الحثيث نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية وتأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل، منفتح ومستنير، وهي أركان لإصلاح السياق المجتمعي لاكتساب المعرفة.
وهذا سيساعد طبعاً على تسريع اكتساب القدرات الأساسية على التعلّم الذاتي وملكات التحليل والنقد المؤسِّسة للإبداع والابتكار في الوطن العربي، وسيتحول بذلك هدف التعليم العالي في البلدان العربية من مجرد تخريج متعلمين يحملون كماً من المعلومات سرعان ما يبلى إلى إعداد مواطنين لمجتمع المعرفة، قابلين للتعلّم الذاتي والمستمر وقادرين عليه... وبذلك نكون قد حققنا وسائل للتغيير نحو الأنماط المجتمعية المتقدّمة التي تسمح، ليس فقط بتملك أدوات العلوم الحقيقية، بل أيضاً بزيادة قدرتها على التحكم والسيطرة على نمو المجتمع الاقتصادي. فالتنمية عملية شمولية تتكامل فيها عدة عوامل، وهي بالتالي عملية مخططة ومحكمة تحدث تغييراً جذريّاً في بناء اقتصادي قوي.