لا يكاد يخفى على القرّاء التضخمَ الذي مُنِيَ به الدرس الأكاديمي, وأخذت هذه الظاهرة تجليين أو صيغتين في الرسائل والأطاريح؛ الصيغة الأولى تكون عبر التراكم غير ذي الجدوى الكبيرة للدراسات في موضوع واحد من دون أن يسأل الباحثُ نفسه عن الجديد الذي يقدمه, والأخرى في حجم الدراسات نفسها, فقد امتلأت متونها بكلام قد لا يغني, ولاتساع الموضوع اكتفت هذه الورقة بتأمل الصيغة الثانية للترهل أو التضخم على سبيل التساهل, كما اكتفت ببعض الشواهد. والانتفاخ الذي يصيب تلك الدراسات يقف وراءه جملةٌ من الأسباب, سيحاول هذا المقال تأمل بعضها, وأول تلك العوامل -التي قادت إلى تمدد الدراسات- البدهيات التي تقع فيها, فلا يمكن للباحث أن يبدأ من الدرج الأول للبحث, بل كان ينبغي أن يَحِطَ أو يحاول الإحاطة بما قيل, بادئاً بما انتهت إليه المعرفة, فكثيراً ما وقع الباحثون بترداد بدهيات فرغ البحث منها, ويقف خلف ذلك حدود ثقافة الباحث, فالدارس المبتدئ كثيرا ما عدّ البدهية جديداً, قاده إلى ذلك ضيق معرفته, وإهمال مشرفه, وبالتالي يطيل الحديث عنها والوقوف معها, وهنا يبدو دور المشرف واضحاً, فارتكابه البدهيات إنما يتحمل جزءاً منه المشرف الذي يفترض أنه يمتلك معرفة متراكمة تحمي طلبته, والمتأمل لمتون الرسائل الجامعية يدهشه غناها بالبدهيات, وربما اقتصارها عليها, ولا يعني هذا حرمان الباحث من مناقشة البدهية, لكن ينبغي في المقام الأول أن ينطلق من فرضية كونها بدهية, ثم يحاول مسائلتها.
ويبدو هذا بيّناً في كتاب (وظيفة الوصف في الرواية) للباحث عبداللطيف محفوظ, وهو في أصله بحث لاستكمال الدروس, وهذه الدراسة أنموذج للغنى بالبدهيات, ومن أمثلة ذلك قوله: «التعارض القائم بين البعد المرجعي والبعد الوصفي, أي في كيفية تحول المرئي إلى مقروء[...] خلال هذه العملية تبدو المفارقة بين المشهد اليومي والمشهد الوصفي, فالأول يقدم أشياء ترى تلمس... أما الثاني فيقدم جملة من الأشياء, ينبغي تصور دلالتها بصريا.» فالاختلاف بين البعد المرجعي والبعد الوصفي لا يحتاج إلى التطويل الذي أُعطي له, وإنما هو بمثابة البدهية بين القراء الأكاديميين.
والأمر المهم الآخر كثرة التنظير الذي يساعد كثيراً في ترهل الرسائل, خصوصاً أن تلك الرسائل لا يطّلع عليها في الأعم سوى الأكاديميين فما حاجتها للإسهاب والتبسيط غير الأكاديمي؟! فينبغي على الخطاب النقدي أن يكون شأنه شأن التوقعيات الأدبية لا تطيق الإسهاب والتطويل. وقد اتضح ذلك جلياَ في أطاريح كثيرة فضلا عن الرسائل, والمتأمل في تلك الدراسات يدهشه كثرة التنظير, وقد شُوهد ذلك في رسالة الماجستير المعنونة بـ(بنية الحكاية في الرحلة الأندلسية) للباحث نبيل هادي ناهي, ففي كل مبحث يعطي للتنظير ما لا يقل عن خمس صفحات, ولا أظن مثل هذا التنظير يشكل إضافة للرسائل مع غياب دور الباحث فيه أولاً, وللتخمة التي تفوح بها كتب النقد من كثرة ترداد هذه المقولات.
أما السبب الآخر الذي يقود إلى تضخم الأطاريح هو عدم وضوح المنهج, وقد عرف الدكتور علي جواد الطاهر المنهج, على أنه «طريقة يصل بها إنسان إلى حقيقة», وهذه الطريقة ينبغي أن يصاحبها الوضوح والوعي, فليس محموداً الخلط بين المناهج, وقد كانت عظمة ديكارت كما يقول (إيان واط) هي في المقام الأول عظمة المنهج, والبحث عن الحقيقة من دون منهج أو في التباسه يقود إلى الفوضى, وإلى التباس الحقائق أكثر من وضوحها, وقادت أهمية المنهج ديكارت إلى أن يقول: «خير للإنسان أن يعدل عن التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير منهج» والتباس المنهج أو عدم وضوحه بدا واضحاً في أطاريح كثيرة, ويبدو هذا واضحاً في أطروحة الدكتوراه الموسومة بـ(أدبية الرحلة في رحلات العبودي) للباحث عمران بن محمد الأحمد, ففي مقدمة الدراسة يعد قرّاءه أن منهج بحثه هو المنهج الانشائي, وأن وعد الباحث هذا بمثابة ميثاق بينه وبين القارئ, ويقتضي المنهج الإنشائي (البنيوي) أن ينظر إلى عناصر النص اللغوية والعلاقة بينها, وعزل كل ما هو خارج نصي, لكن عدم وضوح المنهج الذي تبعه الباحث, قاده إلى انتهاكه وعده للقارئ, فلم يكتف الباحث في البنية ولا في دلالة تلك البنية, وإنما تجاوز ذلك كله إلى السياق, فعدم الوضوح هذا قاد الباحث إلى أن يبدأ بدراسة الشخصية التاريخية للرحّالة, ثم ينتقل إلى بنية الرحلة, ثم ينتقل إلى دراسة علاقة الرحلات بالخطابات الأخرى وهو مجال مختلف عما سبقهما, وذلك كله أدّى إلى انتفاخ الأطروحة المذكورة لتصل ل(345) صفحة وهو حجم كبير على أطروحة الدكتوراه, ولعل ما وقعت به هذه الإطاريح في الواقع عينة لظاهرة ابتلي به الدرس الأكاديمي منذ عقود... وبالتالي لا يجلب كثرة الكلام معه سوى تعاظم احتمال الخطأ, فينبغي أن تكون لغة البحث علمية وواضحة, لا تعتمد التأويل ولا اللبس, ولا ينبغي لها أن تفارق الدقة, والسعي خلف الابتكار ومساءلة السائد, ولعل خير شاهد محاضرة ليوتار المشهورة بعنوان (الوضع ما بعد الحداثي) وتعرف أن هذه المحاضرة غيّرت الفكر العالمي, وأعلنت ميلاد ما بعد الحداثة, ولم تزد في ترجمتها الى العربية عن تسعين صفحة من القطع المتوسط.
كاظم حسن عسكر - عضو باحثون
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com