تعد الحالة النفسية حقلاً موضوعياً تتيح للكاتب أن يتناول موضوعها من زوايا مختلفة بحسب وجهة نظره، وبحسب الفهم السائد، وهنا تبرز خصوصية النص في المعالجة، وهو ما يتيح للقارئ تلمس مظاهر الحالة الشعورية التي يعانيها النص، وتكون مسيطرة عليه.
إن الحالة النفسية تظهر نتيجة لدوافع داخلية أو خارجية عن الشخص، وبطبيعة الحال تختلف تلك الدوافع التي تكون السبب في نشوئها، وهي المحرك الذي يعتمد عليه الكاتب في إثراء نصه، وتكون هي الوتر الذي يضربه داخل النص.
تعد الغربة أحد المسببات التي تنشئ شعوراً في نفسية الشخصية، وتؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في سلوكها داخل النص، وتتجلى هنا روايتي (سقف الكفاية) و(القندس) لمحمد حسن علوان، حيث شكلت الغربة بجانبيها النفسي والمكاني تيمة حاضرة في نصي الروايتين بصورة مبكرة، مكونة جانباً شخصياً من جوانب بطلي الروايتين، فكانت ملازمة لهما منذ بداية الأحداث.
وتأتي المفارقة في توظيف الكاتب لمعاني الغربة عند بطلي الروايتين، حيث شكلت الغربة النفسية دافعاً للغربة المكانية، وهو خلاف الطبيعي الذي غالباً ما تتحول فيه الحالة النفسية تبعاً لتغيير المكان، إلا إن ما حدث في الروايتين عكس ذلك، فمنذ بداية الأحداث يشعر القارئ بغربة نفسية تجتاح حياة البطلين رغم وجودهما في موطنهما الأصلي، إلا أنهما يشعران بغرابة لم تجعلهما في وضع طبيعي.
دفع ذلك الإحساس بطلي الروايتين إلى مهاجرة موطنهما الأصلي لأسباب ثانوية تظاهرا بأنها السبب في قرار السفر، إلا أن السبب الرئيس يظل كامناً داخل نفسيهما، وهنا تتشكل الغربة المكانية التي تفرعت عن الغربة النفسية، وفي اللحظة ذاتها تبدأ الغربة بشقيها النفسية والمكانية في دفع الحركة الروائية، وتشكيل صورة البطل.
اشتركت الغربة النفسية في الروايتين بدفع البطلين إلى الغربة المكانية، لكن دوافعهما اختلفت في كلٍ منهما، ففي رواية (سقف الكفاية) تتشكل مظاهر غربة البطل بعد فشله في الارتباط بحبيبته، حيث تُطِل الأحداث في بداية الرواية بكشف الحالة النفسية التي وقع فيها، والتي لم تترك له فراغاً ليكون طبيعياً، فكانت خسارة حبيبته قد جعلت حياته على خط غير مستوي، فلا شيء يبدو صالحاً، أو طبيعياً يدفعه للحياة، وهنا تبدو الغربة النفسية.
دفعت هذه الأحاسيس البطل إلى البعد المكاني للتخلص من تبعات الغربة النفسية، إلا أنه يقع في شباك الغربة المكانية، وتعاظم حالته النفسية، حيث لازمت هذه المشاعر حوار البطل الداخلي عن نفسه، فلم يفارقه ألمه النفسي بخسارة حبيبته، إضافة إلى الغربة المكانية التي تباينت في تفاصيل المدينة الجديدة، فكل جزء منها يشعره بأنه كائن غريب لم يعتد عليه من قبل.
بهذا الأثر حضرت الغربة في رواية (القندس) إلا إن الدافع النفسي اختلف عن رواية (سقف الكفاية)، حيث كونت الحياة الاجتماعية والعائلية هاجساً نفسياً في شخصية البطل جعلته يتذمر من كل ذلك، ويشكل موقفاً معارضاً لتفاصيل حياته الخاصة، ونمط حياة المجتمع حوله عامة، فتشكلت بهذا غربة نفسية دفعته إلى قرار السفر الذي لم يكن بعيداً عن القرار ذاته في رواية (سقف الكفاية).
تتشابه تفاصيل المدينة الجديدة (فانكوفر) في رواية (سقف الكفاية) بالمدينة الجديدة (بورتلاند) في رواية (القندس)، ففي النصين يكشف الكاتب عن مشاعر الغربة التي يعيشها البطلان في الروايتين، وتفاصيل حياة الناس فيهما، وهو يؤكد حضور الغربة بوصفها محوراً تلتف عليه الأحداث، وحقلاً روائياً أسهم في إنتاج النص، ووسيلة في رسم صورة البطلين من خلال كشف الجانب النفسي لهما.
إن هذا الحضور المسيطر لمظاهر الغربة في الروايتين يكشف عن مدى اعتماد الكاتب في بناء أحداثه عليها، فقد تردد صداها لا في الأحداث فحسب بل في علاقات البطلين مع الشخصيات الأخرى، وهو ما يمكن القول معه إن الروايتين تحكيان غربة بطليهما النفسية والمكانية مع اختلاف الأحداث والدوافع.
إن الغربة التي اتكأ عليها الكاتب في الروايتين غربة نفسية أثرت في جميع عناصر الرواية البنائية، ثم انعكست على البطلين بدفعهما إلى الغربة المكانية؛ لتصبح نتيجة لها، وبهذا تتجلى الغربة بكونها قيمة موضوعية بارزة فيهما، أثرت في حركة الأحداث، وبناء الشخصيات.
إن حضور الغربة بهذا الأثر في الروايتين يبرز مدى حضور موضوعها عند الكاتب بصورة واضحة، فكان توظيفها بارزاً وبشكل مباشر، وبنمط متشابه تماماً، فصورة الغربة المكانية تكاد تكون واحدة، إلا إن الأحداث هي التي صنعت الفرق بين الروايتين، وهنا تتجلى الغربة بوصفها تيمة موضوعية ودلالية في الروايتين كليهما.
- حافظ عريشي