عبد الله الماجد
في مطلع السبعينيات الميلادية (1970), ظهر جيل من الأدباء الشباب, أكثر حماساً من غيرهم لنماذج الحداثة في الأدب. وقد استمدوا تأثرهم بها من خارج حدودهم, وشكلت الصفحات الأدبية والثقافية, في الصحافة المحلية بيئة مهمة لنشاطهم. ومما عزز من تفاعلهم, وازدهار نمو هذه البيئات الثقافية الحداثية, أن من ينتمون إلى تيار الحداثة هم من محرري هذه الصفحات. وكان من ثمار حماسهم أن تطورت بعض تلك الصفحات إلى ملاحق أسبوعية, لمعت على صفحاتها أسماء كثير من الأدباء الشباب, ونضجت مواهبهم في تنافس وطموح متصل. وأصبح بإمكان قراء تلك الصفحات والملاحق الأدبية, أن يقرأوا التجارب الإبداعية التي تتبنى الأشكال والبنى الجديدة, ومناقشة قضايا معاصرة في الأدب, مثل قضية «الشعر الحر» وقضايا أدبية معاصرة مثل مصطلح «اللامنتمي» والالتزام في الأدب, والرمزية. وهي قضايا في ذلك الزمن, كانت تعتبر من التجارب الحديثة, قياساً لما كانت الصحف تطرحه من قضايا تقليدية, قبل أقل من عقد مضى؛ مثل تلك المعركة الأدبية التي عُرفت في الصحافة, باسم «جيم جدة» وهل تكتب بالضم أم بالفتح.
ولم يكن «محمد علوان» إلا واحداً من هؤلاء, الذين تنسموا رياح الحداثة, القادمة من الشمال, وتشربوها بنهم, وتأثروا بها في كتاباتهم, حتى إذا تخطت أولى مجموعاته القصصية الحدود, حاز على الاعتراف به كاتباً واعدًا. حينما وضعت مجموعته هذه؛ بين يدي «يحيي حقي» أحد الآباء والرواد للقصة العربية الحديثة. فتحمس لها, وكتب مقدمة متميزة لها, ختمها بالعبارة التالية:
«لا أدري كيف أشكر صديق الطرفين البعيدين, على تعريفي بهذه المجموعة التي رجتني رجاً عنيفاً, أخرجني من ركود واعتكاف. إنني استخسر حقاً أن تمر هذه المجموعة, دون أن تحظى بما هي جديرة به من اهتمام» (الخبز والصمت, المقدمة, ص 16, دار المريخ للنشر, الرياض, 1977).
وتزامن مع من هذا الحدث الأدبي, أن تخطت الحدود أولى المجموعات الشعرية الحديثة للشاعر «مسافر» أحمد الصالح التي لفتت اهتمام الناقد الراحل «جلال العشري» فكتب مقدمة نقدية لها. وقد كان هذا مثار ابتهاجنا نحن شباب تلك المرحلة. وهو ما يعني أننا حرثنا ثم زرعنا, فأنبت الزرع نباتاً يانعاً. أصبح أصحابه هم واجهة تلك المرحلة الأدبية. ومن حقهم أن يؤرخ لهم كممثلين لجيل السبعينيات في تاريخنا الأدبي المعاصر. ذلك الجيل الذي أشرع الأبواب لتيارات الحداثة في الأدب. ولا شك أن ظهور حركة الفن التشكيلي؛ بواجهته العريضة والمبهرة, كان في هذا السياق.
بين يدي أربع مجموعات قصصية لمحمد علوان, هي ثمار جهده المتواصل, وشهادة إثبات بأنه واحد من رواد ذلك الجيل, الذي أفرز أدباء وكتاباً في الشعر والقصة والرواية والنقد. وكان واضحاً غياب كتاب المسرح, لأن بيئة المسرح في ذلك الوقت غير متوفرة, بالرغم من بعض الجهود الفردية لكتاب وأدباء من جيل الرواد, لاقتحام هذا الميدان. مثل «أحمد السباعي» (1323 هـ - 1401هـ) و»إبراهيم الناصر» (1934 – 2013م) لا تعدو إلا أن تكون محاولات جريئة لمحاولة فتح الباب المغلق.
* * *
مجموعات «محمد علوان» القصصية, التي صدرت –حتى الآن– هي على التوالي: (الخبز والصمت, 1977), (الحكاية تبدأ هكذا, 1983), (دامسة, 1998), (هاتف, 2014). وقد يحلو للمؤرخ الأدبي, أن يلاحظ أن الفاصل الزمني, بين ثاني المجموعات والأولى ست سنوات, بينما الفاصل الزمني, بين الثالثة والثانية خمسة عشر عاماً, وبين الرابعة والثالثة, ستة عشر عاماً, وأن الحيز الزمني لإنتاجه القصصي سبعة وثلاثون عاماً. وقد يلاحظ هذا المؤرخ الأدبي, أن الفارق الزمني بين المجموعة الثانية والثالثة, وبين الثالثة والرابعة؛ أخذ في الاتساع, وربما يرجع ذلك إلى أن الكاتب ليس متفرغاً للكتابة الأدبية.
وسوف يلاحظ الناقد الأدبي, حينما يهم بفحص هذا الإنتاج الإبداعي, في تسلسله الزمني, أن الكاتب قد بدأ مُكتمل الأدوات, وأن أدواته الفنية قد اكتملت في نموها, ما بين المجموعة الأولى (الخبز والصمت, 1977) وآخر المجموعات (هاتف, 2014). ويجوز لنا اعتبار مجموعة (الخبز والصمت) هي مرحلة الانفتاح المباشر على التجارب الحديثة المعاصرة, أي أنها مرحلة التجريب والتأثر, شأنها في ذلك شأن فن القصة القصيرة العربية, التي ظلت تقتبس من الغرب أشكالها وأساليبها, بل تقنيتها على وجه العموم, لكن الكاتب العربي –وعلوان من أولئك– على وعي بمؤثراته وموروثه وخصوصيته وجوهره؛ حينما يُعبر عن تجاربه.
في مجموعة (الخبز والصمت) قصة «نعيق الغراب الأبيض» مثال على تأثر الكاتب بالتجارب القصصية الحديثة. في تلك الفترة؛ العربية منها أو المترجمة, يتبنى الكاتب أسلوباً وشكلاً أقرب إلى صياغة اللامعقول, والمنحى الغرائبي, وصيغة «المفارقة الضدية» –حتى في عنوان القصة–. فالغراب, على غير المعتاد والذي نراه, هو غراب أبيض زال عنه عَرَضه الذاتي, لأنه شاب فتحول لونه إلى الأبيض. وهو مثل مطروق يستثمر كمعادل موضوعي, على هول ما يحدث. لكن علامة الغراب نفسها, تضعنا في صيغة السؤال والتوتر, الذي أفضى إليه موضوع القصة في صياغتها الغرائبية. والموضوع في هذه القصة هو الجوع, الذي أصبح مؤثراً عبر علامات أخرى في النص, التي يمكن رصدها ابتداءً من الغراب الأبيض مخالفاً للمألوف, كون الغراب أسود بلونه الذاتي العرضي, في الاستهلال الاستباقي, الذي تعمد أسلوب المخالفة الزمنية في بداية القصة. وفضلاً عن غرابة الغراب الأبيض الذي طوّف بالمدينة تسعاً وعشرًا, وفي متتاليات زمنية أخرى؛ سبعاً وثمان. تضعنا هذه الشفرات الرقمية في حالة المرموز المعجز. فقد تحولت هذه الحالات الزمنية إلى أرقام تشكل معنى ما, لها دلالاتها في الحدث. ومغزى الرقم سبعة, ظهر في أكثر من قصة, بما ينطوي عليه من تأويلات ودلالات ثرية. وعلامات أخرى: قافلة الجياع التي سوف تغزو المدينة؛ طفل يسأل: متى نموت؟ طفل يعض إصبع طفلة, ظهور المشهد المضاد للحالة السائدة؛ مشهد الوجاهة؛ سيارة خضراء تقل امرأة متنعمة, طائر غريب اللون يحط فوق سطح السيارة. تتشاءم السيدة وتطلب استبدال السيارة بأخرى, ويتأزم المشهد حينما تقترب قافلة الجياع من المدينة, وكأن القيامة أوشكت, الأبواب تُوصد, النوافذ أُغلقت. «أنزرع الخوف في العيون. وماتت في القلوب أنشودة الألفة الأبدية» وتزداد حدة التوتر, ويتأزم الموقف, وينتشر الهلع, فقد استبدلت الرياح طريقها, والغيوم غيرت مسارها! «ياليت من يولد يعود من جديد لرحمه. فالخروج بداية الرحلة العكسية للقبر مرة ثانية». المشهد الغرائبي, ينتهي بغرابة أخرى, فقد تم دحر قافلة الجياع؛ بقصيدة حَوليّة وخطبتين. وهذا إشارة إلى أنه تم دَحْر القافلة؛ قولاً لا فِعلاً. والغراب قد شاب في هذه المدينة. علامة الغراب الذي شاب؛ هي مفارقة ضدية, تم استدعاؤها تراثياً. في الحكاية التي أوردها « أبوبكر ابن أبي الدنيا» من أهل القرن الثالث الهجري (توفي 281 هـ) في كتاب «الفرج بعد الشدة». جاء في الحكاية التراثية:
«إن الخليفة هارون الرشيد حاصر حصناً, فإذا سهم قد جاء ليس له نصل؛ حتى وقع بين يديه, مكتوب عليه:
فقال الخليفة هارون الرشيد اكتبوا عليه وردوه:
فافتْتحَ الحصنُ بعد ذلك بيومين أو ثلاثة, فكان الرجل صاحب السهم ممن تخلّص, وكان مأسورًا محبوساً فيه سنتين».
(أبوبكر بن أبي الدنيا, الفرج بعد الشدّة, ج1, ص 77, دار الريان للتراث, القاهرة, 1988).
الحكاية التراثية؛ تقترح حلاً للممانعة واستحالة أن يشيب الغراب, بالرجاء أن يكون «الفرج بعد الشدة». وهو ما تحقق بعد أن تم فتح الحصن, ونال المحبوس حريته. وهذه الحكاية تنسجم مع المبنى الذي أقام عليه «أبو الدنيا» كتابه «الفرج بعد الشدة». لكن الغراب في قصة «محمد علوان» قد شاب لاستحالة الفرج.
وهذه القصة خير مثال, على تأثر الكاتب –منذ وقت مبكر– بالنموذج الحديث في القصة. الذي ثار على الصياغات والأشكال السائدة في القصة حينذاك «قالبها مستورد, لإثراء الأدب العربي ومجاراة أوروبا» –كما قال يحيي حقي–. النموذج في هذه القصة, ما بين القصة والقصيدة, في اعتمادها على السرد المدور. الاستهلال, الاستباق والاسترجاع, كلها أدوات تتداخل مع بعضها. وفي بعض جملها نستطيع أن نرصد تعبيرات فلسفية وجودية, مثل هذه الجملة: «ياليت من يولد يعود من جديد لرحمه, فالخروج بداية الرحلة العكسية للقبر مرة ثانية», وتتقاطع هذه الجملة مع مقولة «البيركامي» : «خوفي من الموت, ينبع من رغبتي في الحياة». أما الشعر في هذه القصة, فيتضح في إعادة كتابة بعض الجمل كمقاطع شعرية تذكرنا بقصائد «ناظم حكمت» و»بابلو نيرودا» على النحو التالي:
«شهوة السؤال في الحلوق
يغتالها الصمم
البطن ضامر والخيل لا تزال تذرع الدوائر
تجول تصول دونما هدف
ياليت من يُعلم الطفولة الابتسام
والصراخ
ياليته ينزع الخوف من عيوني
ويجعل الجياع يشبعون»