نادية السالمي
جميعهم يدعون أنهم على قدر من الثقافة، والغريب هو أن جلهم رغم هذا الادعاء لا تجمعهم أهداف ثقافية مشتركة، ولا يحاولون خلقها، رغبة في الاستئثار بالقمة، التي لفظت الجميع خوفًا من تضيق اتساعها بالأنانية والخواء الفكري والثقافي.
صور في كل مكان يكررها المشهد الثقافي:
هم ذاتهم الذين يخيّل إليهم أن التظاهر بالحكمة لا يحتاج إلا للعب دور السكينة، يؤمنون أن أهم أدوات المثقف للترويج عن أهميته صورة لبطاقة دعوة وشهادة شكر، وحفلة توقيع وألقاب تساعد في البهرجة، وشلة تعزز الدعم، وماهرة في التصفيق، وإن وجدت زاوية في صحيفة أو منصبًا ثقافيًا أو أكاديميًا كان الظرف مثاليًا أكثر وملائمًا لصناعة مثقف يشار إليه بالبنان، وأعتقد أن هذا البنان معوج!.
لا تكاد تخلو أي مدينة في العالم وأي وسط ثقافي من هذه الصور فالحديث فيما سبق عام، وعلي أن انتقل من العام إلى الخاص للحديث عن مثقفي الطائف الذين كتبت عنهم في 2016 م في هذه الصحيفة وكنت أظن أني لن أعود للحديث عنهم، لكني أعود متألمة وآماله.
فريضة العزلة:
في الثلاثين عاما المنصرمة من برز من أبناء الطائف في أي مشهد؟!
معاناة الطائف الثقافية أهمها جمود مثقفيها داخل أطر ثابتة جامدة لا تتزحزح، وكأنها فريضة تدفعهم للعزلة. عزلة اختيارية أحيانًا وأحيانًا اجبارية فما الذي يدعوهم إلى تقبّل هذه التهلكة؟!
أفهم أن تكون مثقفًا بلغت ما بلغت وتظن أنك لم تلق ما تستحق من التقدير فتنطوي مبتعدًا عن الوسط الثقافي الذي كنت أحد رواده، لكني لا أفهم لم التمادي في هذه العزلة خصوصًا إذا مدت لك يد تقصد تكريمك، وتعديل خطأ ما حدث في وقت سابق؟!
وأفهم جيدًا أن تكون مثقفًا ناشئًا تتطلع إلى أن تتبوأ في المستقبل مكانة ثقافية مرموقة ولا تعرف كيف تتعامل مع المؤسسة الثقافية، لكني لا أدرك لمَ تغفل عن دور الصبر والعمل الذاتي على تطوير مهاراتك فهو من يبني لك مستقبلا حافلا تضطر المؤسسة الثقافية أن تلتفت من خلاله إليك، فلم تستعجل عزلة لا تفيدك في شق طريقك؟
العزلة المؤقتة بين الفينة وأختها بحد ذاتها جيدة لأمور مشروحة في مقال سابق، لكنها في ظل غياب الدراية بإدارتها، أو تحت وطأة ما يظن أنه تهميش وانتقام من المؤسسة الثقافية تكون العزلة معضلة، وهي السبب الرئيسي للنتائج الكارثية في الأنماط الثقافية في الطائف وغيرها، فمن خلالها ترعرع المثقف القليدي، ونما المثقف النفعي، واختفى المثقف العضوي، وأرجو أن لا يطلع علينا المثقف المهرج!
المثقف التقليدي عاجز عن القيام بدور يعود نفعه على الطائف بصورة ملموسة ومحفورة في ذاكرة الثقافة، ورغم معرفته الكبيرة إلا أنه لا يطرحها ولا يشرحها مكتفيًا بها لنفسه أو لمن عرف قيمته الفكرية والثقافية وجالسه، هو لا يستطيع أن يتبوأ مكانة تناسبه في قيادة الرأي العام لانعدام الجرأة أو الثقة بنفسه أو بالمؤسسة الثقافية فكيف يستطيع مساعدة الطائف؟
المثقف النفعي يبحث عن مصلحته أولا وأخيرا وبين الأول والأخير يخدم هذا وذاك، ويدفع الحراك الثقافي شرط أن يصب هذا في مصلحته، يعيش في هذه الانتهازية متحذلقًا، متشيعًا للقبيلة أو العائلة، راكبًا على كل موجة وبوقًا لها، لا يسمح لأحد أن يتقدم عليه، ولا يعطي فرصة لأصحاب الكفاءة أن يتقدموا وإذا سمح فمن خلاله، لهذا إذا كان صاحب دور محوري قد يلجأ إلى الاستعانة بمثقف من خارج الطائف للمساهمة في الحراك الثقافي داخل الطائف، وكي يضمن مجاملة تمكنه من الاستضافة خارج الطائف.
مصلحة هذا النفعي تقتضي أن لا يبرز في الطائف أحد، والمدينة يجب أن تظل فقيرة من المثقف الذي من الممكن أن يلمع لتوافر الشروط الشخصية والفكرية والثقافية.
ولا شك عندي أن هذا النفعي مهما وجد من تصفيق أمامه، سيجد في أعماقه صفعة تذكره بالدونية والتضاءل. وهذا المثقف لا يستطيع مساعدة الطائف.
المثقف العضوي غيابه خطير عن المشهد الثقافي لأن دوره التقدمي هو ما يحرك المشهد الثقافي، هو ما يدفع النشء للتفكير وحرية التقرير والاختيار وهو دافع للمتلقي لتمحيص الأمور، تقدير المشاكل، وخلق الحلول، نضاله الفكري وثورته على الوعي يجبر العقول للركض في ميدان الاطلاع والمعرفة لمعارضته أو موالاته أو تقديم الأفضل، وهذا خطوة ذات أثر إيجابي للحد من ظاهرة التصحر التي تجتاح العقول والقلوب.
أخيرًا المثقف المهرج بفضل من الله ليس له وجود حتى الآن في الطائف وأرجو أن لا يكون. ويكفي لمعرفته نظرة في القنوات الفضائية ومواقع التواصل لتدرك سلوكه.
بالخط العريض:
رافد المعرفة عند المثقف يتحول إلى صورة من صور الترف إذا لم ينتقل إلى ممارسة هذه المعرفة لإنتاج الوعي وتكوين الفكر الذي يعطي التغيير قيمته ويمنحه الجدوى في المجتمعات، هذا هو دور المثقف تحرير الفكر الإنساني من استلاب الجهل والخرافة والعوز والحاجة للمألوف والخوف من المجهول، بهذا لا يسمح للآخر الذي لا يملك شيئًا، للبروز في العقل الجمعي وإنتاج اللا ثقافة فنحصل على انحطاط الذوق والخطاب، وشيوع البراغماتية، وطغيان المادة.
المثقف الذي يعرف مسار دربه لا يحتاج أن يعتمد إلا على نفسه، ومواقع التواصل الاجتماعي وفرت عليه الكثير، فالجمهور فيها يختار متابعة المثقف عن قناعة وحرية، بعيدًا عن بيروقراطية المؤسسات الثقافية وفرضها لأسماء معينة.. فما حاجتك للمؤسسة الثقافية، لتوفير منبر لك في ركن أو طبع كتاب أو حملك من الطائرة للفندق أو إقامة أمسية غبت عنها وإن كنت فارسها؟!
ماكان ينبغي أن تطبع المؤسسة كتبك طالما أنك قادر على دفع هذه التكلفة، دورك أنت كقادر ماديا وفكريا أن تتحمل أعباء السفر الداخلي في سبيل الثقافة، وتطبع كتبك وتأتي بنسخة منها للمؤسسة لتحتفظ بها وتعين من يحتاجها من المثقفين. المؤسسة واجبها تساعدك ماديًا متى ما عجزت عن الإنتاج لفقرك المادي أو الصحي. المؤسسة تسلط عليك بعض الضوء نعم هذا واجبها لكنك وحدك من يمنح هذا الضوء القدرة على الصمود فأنت مصدره وانعكاسه.
المثقف الذي ينتظر دورًا من المؤسسة الثقافية في مسيرته فاقد عقله، عازف عن فهم حقيقة الأمور، ومعنى الريادة، لا يعرف إلا البهرجة التي لن تأخذه إلا لضوء سرعان ما ينطفئ، مع آخر قطرة في كوب الشاي في أحد أورقة الثقافة، وصورة تذكارية جامدة حتى لو كانت متحركة.