الثقافية - محمد هليل الرويلي:
تعال معي أيها الأعرابي لأطراف حديقة غروب العرب قبل أن تنهي جزأك الأخير من رحلتك للمغرب. سأوصيك بوصية هناك قبل رحيلك؟ كما سأعرفك على الزهور, حين تدنو تلفها بحنو شمس المغيب. وعند الشروق سأعرفك على العبير المعتبق مسكًا والمفعم في هذا الأرج الممتد بحتار بلدان العرب. استنشقه أيها الأعرابي, استجرع شرابه المستطاب, واقبض على كثبان صحرائه الكبرى ما أمكن لك أن تقبض على غيمه وضبابه ورياضه وهضابه. اغترف من روافد مناهيله وهي جارية بقبضتك, اغترف غرفة حتى من السراب وهو يصعد كبخار حار وسط بحيرة السراب المالحة المغربية في هذه الصحراء الكبرى المكنوزة نبكاتها بالأسرار. وسط هذه الكثبان والسراب والبخار والضباب عوالم مطيرة ومدن أثيرة وبشر لن تجدهم ولن تراهم وتمشي معهم وترقص شدهًا وأنت تسمع أشعارهم وقصصهم سوى هنا..
حتى فلول الظلام وهي تتسابق لاحتضان ساعات الفجر الأولى اغترف منها يا أعرابي فبينها الأسرار الكونية والألغاز بطرائق وعلائق ووشائج بدعانية. التقط النور من كل زاوية من زوايا هذا البلد العريق الأصيل حتى من العواصف والأعاصير, سأضمن لك ألا تظمأ بعدها, ولن يتغشى عينيك وأذنيك وجناحك سوى النور المأزوز وهو يضم جوانحك ويغلي مرجله داخلها متكئًا كالموسيقى الشاجية تتمايل طربًا على مسامعك وناظرك. لا تتوقف بعدها أيها الأعرابي ولا تكتفِ بل اغرس وجهك في كل زاوية من زوايا المغرب.. وأنا متأكد أنك ستنبت وتنبت سأضمن لك أنك ستطول وتتعرش آكامك وتورق أغصانك, وستشرق في كل الاتجاهات وتنثني محملًا بطلعك النظر ثم قل للمنتظر الذي أرقه طول ليال الوصل هاهي دنت وهاهي مرت وهاهي ألقت اليوم في سبتها المشهود خواتيم رسائلها لقراء «المجلة الثقافية»..
على رسلك يا أيام المغرب تمهلي, واقصري خطاك, وقصري من مسيرك, فخطانا في هذه الرحلة كانت كمن يجر صديقاً لمقابلة صديقٍ طال موعد لقائه, وهاهو اليوم يلقاه وسريعًا اليوم يودعه..
وها أنت أيها الأعرابي تجر مئزرك وتعتلي راحلتك في رحلة المسير لتونس الخضراء. أنوصي لك ببيدق؟ أم ستسلك هذه الطريق ولا حاجة لك بدليل؟ فقلت: أيها الأحبة في المغرب أسبغتم على صاحبكم بناصع الأرتال, وما أظن أني بحاجة لبيدق سأسلك هذه الفجاج.. ثم سأضبن ذاك الوادي..
قالوا إذًا: نستودعك الرحمن تمضي لصيقك الأشواق خاشعة.. أبلغ فقط تحايانا للإخوة التونسيين وسننتظر منك نشر نتاج حراكهم الأدبي بعد أن صالوا في دهشنته شأوهم عبر الدهور والعصور..
الإعلام بالثقافة ترجمة الإبداع الشفاف
قالت الصحافية «عزيزة رحموني» في استهلالة الجزء الأخير بمحور عنونت له «بالإعلام بالثقافة» أن للمجتمع المدني ووسائل الإعلام والمشاركة الثقافية، ثلاثة مفاهيم مترابطة تحيلنا إلى وسائل الإعلام كثقافة استهلاكية بامتياز فصار من اللازم التحلّي بفكر ناقد تجاه تأثيرها، موضحة أن الإعلام يعد أقوى سلطة ترسم معالم حياتنا، وتحمل ملامح الهوية بأبعادها الإنسانية والحضارية كما تحمل مسؤولية التنوير الفكري والرقي بالذائقة الثقافية. الصحافة المكتوبة توجّه الرأي العامّ لكن اليوم انمحى دورُها أمامَ قُوّة الحشود التي تتفاعل في الفضاء الأزرق وتُغَيّرُ رأيها بسهولة وباستمرار.
أما بخصوص مؤسسات الإعلام الثقافي المغربي فهي منصات ضرورية لتعميم الثقافة والتوعية ونشر المعرفة ولوْ أنها تعْجَز عن متابعة الظواهر الاجتماعية ببلدنا لخلق الصورة الثقافية المتفاعلة مع وضعها في سياق الطفرة الآنية والمتغيرة. وبُعدها التّواصلي ومساهمته في ترقية الثقافة يحتاج إلى مساءلة في هذه المرحلة التي يختلط فيها الربيع بالخريف. مؤكدة على أن المثقّـف يحتاج جرأة وحذرا وموضوعية في التفاعل وتقييم الوضع لترجمته إلى إبداع شفاف يعكس الصورة التي تساهم في تأريخ المرحلة عن طريق استقبال وتفسير الأحداث ثقافيا وإعادة تدويرها في الفن والمسرح والسينما والتلفزيون وفي الدوريات والمنشورات.
الموجة الثقافية تبني ثقافة جديدة
في المغرب وخارجه
فيما وصف مدير موقع الموجه الثقافية في المغرب الأستاذ محمد مقصيدي بأن الإعلام الثقافي يساهم في الصناعة الأدبية، الفنية والثقافية في المغرب وفي البلدان العربية عموما. لكونه دعامة أساسية من دعامات بناء شعوب التي تمتلك الوعي وبنفس الوقت لتكون قادرة على مواكبة الحضارة, وأن كان لا يخفي هنا بعض الصعوبات التي يعاني منها إعلامنا الثقافي في بلداننا، والمشاكل اللانهائية التي تعترضنا حيال هذا الإعلام الثقافي.
وأضاف: إن الموجة الثقافية ليست موجة عابرة، بل هي موجة لبناء المستقبل، فقد صارت حديقة لمختلف المبدعين في العديد من المجالات، ومرآة لواقع ثقافي جديد يتشكل، وهذه الموجة الثقافية تعد جزءًا لا يتجزأ من نواته الصلبة. فمجتمعا بلا إعلام ثقافي يمكن وصفه بأنه مجتمع في حالة غيبوبة حتى ولو نشطت الحركة الأدبية والفنية داخله, وكل ما نأمله أن تتعامل مختلف المؤسسات مع الإعلام الثقافي بشكل أكثر جدية, لأن تجربتنا سواء من داخل الموجة الثقافية أو من خلال ملاحظاتنا للتجارب العربية القليلة التي تنحو المنحى الذي نذهب إليه، تؤكد أن هنالك بوناً شاسعاً وهوة بين الإعلام الثقافي والمؤسسات التي تفضل التعامل مع الإعلام السياسي والاجتماعي.
السينما المغربية تراكم كمي وكيفي
وحول التجربة السينمائية المغربية أكد الناقد الأدبي والسينمائي الدكتور «محمد صولة»، أن التراكم الذي حصل في الإبداع السينمائي المغربي، ليس هو بمثابة ظهور كمي فحسب، بل يمكن التعامل معه من خلال الكيف، وهكذا لا يمكن المقارنة بين تجربة المخرج سهيل بن بركة والجيلالي فرحاتي، أو بين مومن السميحي وحسن بنجلون، لأن السينما المغربية تختزل تجارب متعددة في طرق كتابة نصوص السيناريو وأساليب توظيف التقنيات الفنية والجمالية، واختيار التيمات الثقافية والشعبية والتربوية، على الرغم من أن هذه التجربة، إذا أردنا الوقوف على بعضها، فإننا مثلاً سنقتصر على نماذج تبدو لنا صالحة للمواكبة التربوية «كأموك» لسهيل بن بركة 1982م، تيمة العنصرية، بامو لإدريس المريني 1983م، تيمة التاريخ، شاطئ الأطفال الضائعين للجيلالي فرحاتي 1991م، أطفال الشوارع، الطفولة المغتصبة لحكيم نوري 1994م، الاغتصاب، ريزوس دم الآخر لمحمد لطفي 1996م، تيمة فقدان داء المناعة المكتسبة/ السيدات، نساء.. ونساء لسعد الشرايبي 1998م، تيمة تعنيف المرأة، وعلي زاوا لنبيل عيوش 2000م، تيمة أطفال الشوارع. فكل هذا التراكم يقتضي الاهتمام به شكلاً ومضموناً، مادياً ومعنوياً.
وأضاف: مع ذلك فإن الطفرة التي تشهدها الصناعة الفيلمية في المغرب الآن، ما هي إلا سمة من سمات التطور الحاصل في البنيات العاملة في الميدان، فكل «يوم» نكتشف استقطابات للغرب وللأمريكيين وغيرهم، الذين يحجون إلى المغرب قصد إنجاز أفلام تعد من الروائع الخالدة، بهذا فالتجربة السينمائية المغربية سوف لن تبقى بمنأى عن هذا التحول، إنها مستفيدة منه، لكن ما يجعلها متعثرة هو غياب البنيات التحتية، واستراتيجية التسويق، وتنظيم الدعم والتدبير، وعدم التعامل معها كمكون تنموي لا رمزي يمكنه أن يساهم في ترقية الذوق وتنمية الوعي للإنسان، وربطها بالأفق التربوي في انحيازه للمعرفة والتمدن والتحضر، لأن تقدم الشعوب حضارياً وفنياً وجمالياً قمين بوضع استراتيجية سياسية تربوية واعية «ببيداغوجيتها» وفنون التواصل والأداء.
وتابع: والسينما في المغرب، وإن بدت غريبة ومدهشة للبعض، فإنها تختزل حضارة الأمة ورمزيتها، بل وتوثق مجدها بالصوت والصورة كذاكرة للتاريخ والدين والتربية والعمران والإنسان، كل هذا هو ضمن مخزون موروث لا نهائي، أو يكاد يكون هو المبعث الذي لا محيد عنه في تكوين وصناعة الوعي.
السينما المغربية أرخبيل التجارب
بينما يرى الناقد السينمائي الأستاذ «إبراهيم رزقاني»، أن قراءة سريعة في تاريخ السينما المغربية إن فضلنا أن نسميها كذلك، ستبدي لنا خيطاً رفيعاً يميز هاته السينما، وهي أنها مختبر لتجارب فردية مكنت العديد من المخرجين أن يدلوا بدلوهم في هذا الميدان.
وقال: لا يمكن لنا على غرار السينما الروسية أو الإيطالية أو الألمانية وحتى الهندية بما لها وما عليها أن نتكلم عن سينما مغربية لها خصوصيتها ومعالمها البارزة والتي بإمكانها أن تبوأها المكانة الخاصة في التجارب السينمائية. كان بالإمكان لتجربة استثنائية جمعت مصطفى الدرقاوي ومحمد الركاب في فيلم «رماد الزريبة» سنة 1976م, أن تؤسس لسينما مغربية متشبعة بتربة الوطن ومنصتة لنبض الإنسان المغربي، خاصة أن هذا التشكل بمعية عبدالقادر لقطع يبرز أن هناك هم الهوية لمخرجين مغاربة أتوا من مدارس سينمائية مختلفة يحدوهم هم تأسيس سينما مغربية، لكن الأهم من ذلك هو الوضع الاعتباري للسينما في تلك الآونة والتي لم تجد الدعم الحقيقي في ظل سياسة التوجس من سينما قد تحشد الوعي السياسي لدى المتلقي، بلا إضافة أو عدم وضوح الرؤية لدى القيمين على الشأن السينمائي للبلاد. لذا أفرزت ما يمكن أن نسميه سينما الأرخبيل، بحيث تحولت السينما بالمغرب إلى أرخبيل من الجزر نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر خاصة في مرحلة ما قبل الدعم الذي خصصه المركز السينمائي المغربي لاحقاً، تجربة سهيل ببركة وهوس الوصول إلى العالمية عبر إنجاز أفلام ضخمة والارتهان إلى ممثلين عالميين «أموك» و»حرب البترول لن تقع»، وتجربة نبيل لحلو المتاخمة للخبل الإنساني والإقامة في منطقة سوريالية في أفلام «إبراهيم ياش» و»القنفودي»، وتجربة محمد الركاب الذي لم تسعفه ظروفه الصحية أن يستمر لإنجاز أفلام واقعية بنفس درامي يتسلح بحساسية مغربية في فيلمه «حلاق درب الفقراء». كما لا ننسى تجارب الرواد كمحمد عصفور وحميد بناني ولطيف لحلو بأفلام تحاول أن تعبر عن مغرب تلك الآونة باستثناء محمد عصفور السينمائي العصامي والذي ظل متأثراً بمشاهداته التي عكسها في أفلامه.
وأضاف: إن المركز السينمائي ساهم عبر صندوق الدعم أن يساعد على نهوض السينما بالإضافة إلى تحول المغرب إلى قبلة للإنتاجات «السينما العالمية» وتوفر الفرصة للاحتكاك بتجارب الإنتاجات العالمية، لكن رغم توفر أرضية للانطلاق، فلم تفرز إلا كمية هائلة من الأفلام أغنت
«فيموغرافيا» السينما المغربية، مكنت من بروز بعض المخرجين الذين تمكنوا من الحصول على جوائز بمهرجانات عالمية لكن يبقى الإشكال الأهم: هل حقق هذا سينما مغربية بمعنى الكلمة تعتمد على صناعة سينمائية لها مرتكزاتها التي تخول لها الاستمرار وتعميق حضورها في المشهد السينمائي المغربي؟
فرق المشرق حفزت المسرح في المغربي
شكل الموروث الثقافي المغربي وتعدده وامتداده العربي والإسلامي والإفريقي، منهلاً خصباً لإثراء التجربة المسرحية بالمغرب ووصف الكاتب المسرحي «محمد الصباري»، أنه تندرج فيه كل الأشكال الفرجوية الممتدة إلى عصور خلت كالحلقة، والمقامات، وجلسات الإنشاد، ومختلف الطقوس الفرجوية الاحتفالية الضاربة في أعماق التاريخ المغربي قبل انفتاحه على الشكل المسرحي «البوليفاري» المستورد من الغرب.
وقال: لاشك أن قدوم بعض الفرق المسرحية من المشرق العربي إلى المغرب كانت عاملاً محفزاً لانخراط المسرح المغربي في سيرورة إنتاج الفرجة وفق الأسلوب «البوليفاري» منذ سنة 1923م، غير أن التزامه بالقضايا التحررية في بدايات القرن الماضي، جعلت منه واجهة نضالية محرضة على طرح قضية الاستعمار الغربي والدعوة إلى التحرر والاستقلال، مما أمكن معه تجاوز افتقاره إلى مقومات التمسرح الفني إن على مستوى الإخراج، أو الكتابة الدرامية أو أنساق العرض المسرحي.
ومع تطور التجربة المسرحية، وانفتاح المغرب على التيارات الحداثية، خرجت التجربة المسرحية، خصوصاً مع تجربة مسرح الهواة، من سلطة النموذج المسرحي الكلاسيكي المنبني على الوحدات الثلاث، إلى إبداع نصوص درامية قائمة على التداخل بين المتواليات السردية والحكائية، وتنويع طرق الإخراج، وإعادة توظيف التراث، وتنويع الأشكال التعبيرية المنطوقة والإيمائية، والارتقاء بلغة التمسرح من اعتمادها على العامية، إلى لغة ثالثة تمزج بفنية رائدة بين العامية والفصحى، كما انفتح المسرح المغربي على أهم التجارب المسرحية الغربية وفي مقدمتها الشكل التغريبي البريختي، فتمكن بذلك من خلخلة البناء الحدثي الكلاسيكي والالتجاء إلى التغريب والعجائبي، وتوظيف تقنية التقعير (المسرح داخل المسرح) التي توظف نصوصاً تخييلية قد تبدو دخيلة، لكنها تقوم بوظيفة تحريضية ارتكازاً إلى مرجعية الواقع المعيشي وصور المعاناة في واقع يبدو في معظمه متميزاً بالفساد وتردي الأوضاع المعيشية.
وزاد: إلى جانب المسرح الملحمي البريختي استفاد المسرح المغربي من تجارب أخرى كالمسرح الفقير، والمسرح الآرطي (نسبة إلى آرطو), والمسرح التخييلي، إضافة إلى استفادته من الأشكال والصيغ الفرجوية العربية.
علاقة المسرح بالمجتمع المغربي
وحول السؤال كيف يمكن للمسرح أن يطرح علاقته بالمجتمع المغربي؟
أوضح المسرحي الأستاذ «عبداللطيف الصافي» أن المسرح، والدراما بشكل عام، جميعها تستمد عناصرها الأساسية من المجتمع، التي تركز بقوة على الإنسان بكل ما يعتمل داخله من نوازع وتطلعات وعلى محيطه بكل تفاعلاته وتناقضاته، ومن ثم فعلاقة المسرح بالمجتمع علاقة جدلية تبادلية تتطور وتنمو من خلال التفاعل المستمر بين الذات المبدعة الفاعلة والممارسة الاجتماعية الديمقراطية. وأعتقد أن علاقة المسرح بالمجتمع المغربي أساسا لا تزال ضبابية ومتذبذبة مشروطة بلحظتها العفوية بحكم غياب الممارسة الديمقراطية عموماً وشرطها الاجتماعي الذي يساهم في إنتاج المواطن الحر والواعي بشرط وجوده.
وقال: صحيح أن بعض المنتج الإبداعي المسرحي ببلادنا استطاع ربط علاقة التزام وتفاعل مع قضايا المجتمع وارتبط بهموم الناس وتطلعاتهم لكن هذه العلاقة لم تبن الجسور المطلوبة مع الجمهور لأسباب لا يتسع المجال لذكرها.
وتساءل كيف يمكنه تمثيل الهوية المغربية مسرحياً؟ وبيّن أنه قد انشغل النقاد والممارسون منذ عقود بالبحث عن الصيغ الممكنة لتشكيل هوية مميزة للمسرح المغربي واتجهوا إلى التراث وإلى ما سمي بالأشكال ما قبل المسرحية وإلى استغلال الفرجات الشعبية التي تزخر بها بلادنا لتحقيق ذلك. وكان من نتائج هذا البحث بروز حساسيات مختلفة ساهمت من دون شك في تطور الحركة المسرحية ببلادنا، واليوم لا تزال العديد من التجارب المسرحية الوطنية في الشمال كما في الجنوب تثبت أن المسرح قادر على تمثل مختلف مكونات الشخصية المغربية التي تشكلت عبر قرون وامتزجت فيها ثقافات متعددة من خلال النبش في مخزونها الحضاري المتنوع والقبض فكرياً وجمالياً على انشغالاتها الآنية واستشراف تطلعاتها المستقبلية.
كيف يطرح المسرح موقفه
الإنساني والقومي والوطني
وأبان «الصافي» أن المسرح، بمعنى ما هو مرآة الواقع، يتفاعل مع مختلف قضايا الإنسان في بعده الكوني والقومي والوطني لكن طرح هذه القضايا والموقف منها لا ينبغي التعبير عنهما بشكل مباشر بل بأساليب فنية تقوم على تحريك الجسد والصوت في فضاء مدروس، وبرؤية جمالية تفرد مساحة واسعة للمتلقي كي يتفاعل وجدانياً وفكرياً معهما. إنه ينهض بشكل عام على قيم فكرية وجمالية ودرامية متكاملة. ويمكن القول إن على المسرح المغربي اليوم اجتراح قضاياه الفكرية من المعيش اليومي بجرأة أكبر وإعادة النظر في رؤاه الإخراجية بما يسمح بالانفتاح على جماليات جديدة تستاهم في ربط المسرح بالجمهور.
لمسرح جديد يحقق ثورة معرفية
وجمالية حقيقية
كما أوضح الممثل والمؤلف المسرحي كمال الإدريسي أن المغاربة ارتبطوا بالمسرح ارتباطاً وثيقًا فلا ينظرون إلى شيء غيره ولكن، متى كان هذا؟ فالحديث هنا يجرنا إلى ما يسمى بمسرح الهواة، إذ كان الفنان المسرحي يأخذ بتلابيب مجتمعه فيصور فظاعته حتّى يجمله، ونقصانه حتى يكمّله، مؤكدًا في الوقت نفسه على أن المسرح يجب أن يشكل العمود الأساس الذي تقف بوقوفه تطلعات المجتمع إلى غدٍ ليّن، ويغدو بغدوّه رجاء الناس بوطنهم خيرا، لأن الوسيلة الأنجع للمطالبة بالتغيير والإنصاف، هي المسرح بكل تجلياته، ففيه تطرح كل القضايا وفيه تناقش على لسان شخصيات يبث فيها المؤلف أفكاره وهواجسه، ويشحنها المخرج بتصوراته ورؤاه، على خلفية سينوغرافية تقرب المنظر المسرحي من الجمهور في جماليات الديكور والإنارة والموسيقى والملابس والإكسسوارات..
وأضاف: حري بنا أن نبحث عن مسرح جديد يحقق ثورة معرفية وجمالية حقيقية، تخرجه من الاقتباس إلى التأليف، ومن الاتباع إلى الإبداع، مسرح ينطلق من تراثنا وثقافتنا وهويتنا، يجعلنا نضاهي به المجتمعات الأخرى. ولا يتحقق ذلك إلا بوجود نصوص جادة ومتجددة لأن مستقبل المسرح المغربي والعربي موجود أساساً في الكتابة.
المغاربة توجهوا لأوروبا لدراسة الفن
كشفت الناقد التشكيلية الدكتورة «أم البنين سلاوي» أن جذور الفن البصري في المغرب تعود لفترة ما سمي قبل التاريخ، كانت وافرة بالإفادات الإبداعيـة المنتشرة في الأطلس الكبير مثلاً، وبعض مغارات الشمال. استطاع -هذه الإفادات- إرساء بصماتـه لتوثيق نوعية ثقافات الحضـارات المختلفة التي مرت بالبلاد، وبخاصة فترة التحام الأمازيغية بالحضارة الإسلامية التي أحدثت انبثاق ديباجة فنية فريدة تزخر بها الآثار الخالدة عبر أجيال وأجيال. وقالت: أما الدراسة المنهجية الأكاديمية فتعود لفترة المولـى» عبد الرحمن» حيث أسس ابنه» محمد»، حسب كتاب الإتحاف «لابن زيدان «ج.3 ص.367 أول مدرسة الفنون بفاس الجديد تخرَّج منها طلبة توجهوا لأوروبا لإتمام دراستهم في حدود 1300هـ.م ق1822م. ثم انقطعت أخبار أي تكوين فني إلى أن أسس الفنان الإسباني «بيرتوتشي»، مدرسة الفنون الجميلة بتطوان سنة1945، تلتها بعد ذلك ومدرسة الدار البيضاء ثم المؤسسات الفنية التطبيقية في السنين الأخيرة. لكن عدد الفنانين ظل محدوداً لسنين طويلة رُسم لها نهج فني إبان الاستعمار إلى أن ظهر جيل آخر نشأ في فترة الاستقلال حاول التحرر من التبعية وتبني علامات تراثية لتثبيت الهوية، فسقط جلهم في مغالطات لنيل الشهرة أوقعتهم في جمود فني، لكنهم رغم ذلك ظلوا مهيمنين على الساحة الثقافية.
وأضافت: وبعد أحداث ما سمي الربيع العربي بسلبيات فتنة وإيجابيات نهضة الإبداع في كل المجالات، ومواكبة مع شفافية العالم وتنوع وسائل الاتصال، تحقق مكسب إلغاء الحدود وتوثيق التواصل، فخططت تبعاً لذلك الدولة دعم تأسيس جمعيات ثقافية لتنظيم تظاهرات فنية على هامش تجاربهم التشكيلية في مختلف الفضاءات الاستراتيجية داخل المغرب العربي وخارجه، فظهرت في البداية صفوة من الفنانين المبدعين على المشهد الفني المعاصر ولوحظ انبعاث بعض رموز الفن التشكيلي المغربي من جحورهم تيمناً وتفاؤلاً بوضع مغاير يتسم بالتجديد والالتزام بمؤهلات الرسالة الهادفة النبيلة التي طالما دافعوا عنها، ولما صعدوا أخيراً منابر الفن العالمي فتحوا المجال لفنانين مبتدئين ليبدعوا بمقادير خبرتهم ومعرفتهم دون إجحاف.
واستدركت «سلاوي»: لكن مع الأسف تسللت أخيراً الرديئة الفنية المكنونة في ادعاء الحداثة، فتعانقت كل الخبرات التي انحرفت عن المسار السليم، مما هدد بالهدر الفني، لذلك علينا إدراك أن استمرار الصحوة الفنية يتعزز بقيام الفنان بنقد ذاتي لمراجعة قبضات معيار صيرورته حتى يحقق علاقات متوازنة بينه وبين مجتمعه خاصة وبالعالم عامة في ديناميكية تنطلق من معرفة قائمة على الجدلية بين الإنسان وواقعه يرسم من خلالها مسار كينونته وعظمته في حرية وسمو الكرامة.
في قطاع الفنون التشكيلية في المغرب
وفي قطاع الفنون التشكيلية تحدث الفنان والناقد التشكيلي الأستاذ « إبراهيم الحَيْسن» بأنه يمكن القول بوجود استثناءات إبداعية قليلة جدّاً لبعض الفنانين الرواد والمخضرمين والشباب، لكون التجربة التشكيلية في المغرب عموماً ولا تزال بحاجة إلى مزيد من الجهد ومراكمة البحث والتجريب وتطوير سبل وصيغ الممارسة الفنية إن على مستوى الإنتاج التشكيلي، أو على مستوى الكتابة النقدية والمواكبة الإعلامية المتخصصة ودعم الدرس الجمالي بالمدرسة المغربية، فضلاً عن الارتقاء بالمؤسسات والبنيات التحتية الثقافية المتصلة بالإبداع التشكيلي، كقاعات العرض، المراسم (المفتوحة والمشتركة) والمتاحف وغير ذلك كثير.
وقال: وإبداعيّاً، تُوجد مجموعة من التجارب التشكيلية المغربية، لاسيما منها ما ينتسب إلى الفنانين الشباب، لكنها لا تغدو كونها امتداداً لتجارب فنية عالمية، أوروبية وأمريكية، لها مرجعياتها البصرية الخاصة وظروف نشأتها التي قعّدت لظهورها، وأخص بالذكر هنا التقنيات الصباغية والنحتية، إلى جانب التنصيبات والإبداعات التركيبية ذات الجذور الغربية البرّانية التي لا تمت إلى الهوية المغربية بصلة.
وبمعنى آخر، أن المنجز التشكيلي المغربي في تنوُّع مداراته وتعدُّد أساليبه وكثرة مزاوليه، لا يزال يعيش -وإلى اليوم- تمزُّقاً إبداعيّاً ناتجاً عن شيوع فوضى بصرية وتشتتا معرفياً وجمالياً.
الخطاب التشكيلي
فيما يؤكد الفنان التشكيلي والناقد «بنيونس عميروش»: أن الفن المغربي المعاصر اليوم يعتبر من أبرز التجارب التشكيلية العربية، لكونه اتخذ مسارا بنائيا ومنسجما مع أجواء وسياقات كل حقبة من حقب تاريخه الذي طبع انطلاقة الوعي الحداثي في خمسينيات القرن العشرين مع أحمد الشرقاوي وجيلالي الغرباوي، وسجل مرحلة نضج أسئلة التعبير وآفاقه في الستينيات والسبعينيات من خلال بحوث وطروحات فريد بلكاهية ومحمد المليحي ومحمد شبعة بمدرسة الدار البيضاء، والمكي مغارة وسعد بن شفاج بمدرسة تطوان، لتمتد مع يقظة فنانين من أمثال القاسمي وربيع وبلامين وبوجمعاوي.
مضيفًا: إن هذا الحراك الفني المفعم بالرؤى والمواقف، ظل متبايناً بين مد وجزر في عقدي (الثمانينيات والتسعينيات)، كما أنه يعد مَنْبَت الحيوية التي وسمت الحقل التشكيلي منذ مطلع الألفية كما يتفق على ذلك جل المهتمين. فالانتعاش الذي مس «السوق» الفنية على مدار العُشَرِية الأولى وما بعدها، بات وراء نشاط مؤسسات الرعاية التابعة للأبناك، وإنشاء العديد من قاعات العرض الخاصة في المدن الكبيرة كالدار البيضاء ومراكش، والرباط التي عرفت تدشين متحف محمد السادس للفن المعاصر والحديث 2014م. كما دفعت دينامية رواج العمل إحداث مؤسسات البيع بالمزاد العلني بالعاصمة الاقتصادية ومراكش، بوصفها معارض كبيرة ذات بُعديْن وطني ودولي، موازاة مع الانفتاح الذي عرفه التشكيل عالمياً، بناءً على إمكانات التواصل الهائلة التي صارت تتيحها التكنولوجيا الجديدة. كما أصبح الفن المغربي مثار اهتمام سوق الشرق الأوسط خاصة لوحظ ذلك في «معرض دبي للفن»، وغدت وكالة مثل «كريستيز» تتبنى أعمال فناني الأجيال الجديدة.