د. محمد عبدالله العوين
تميز الدكتور سيد خليل أستاذنا في النحو بخفة دمه وتعليقاته الظريفة على الشواهد الشعرية الواردة في حاشية ضياء السالك إلى ألفية ابن مالك، ومن خفة دمه أنه حين استطرد في الشرح وأتى بقصيدة أحمد شوقي في مديح دمشق «سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق» قارن بين نهر النيل ونهر بردى وسخر من نهر دمشق وقال: هو دا بيسموه نهر؟! دا مجرى ميه! فنضحك من فزعته لنهر وطنه وتقليله من نهر عاصمة عربية أخرى، وحين يدخل المراقب الأستاذ الفاضل عثمان النجران ليحضر الطلاب كلا باسمه يقطع حديثه بسرعة شديدة ويدخل في موضوع جاد بعيد عن الأول؛ فنكتم ضحكاتنا خوفا من سلطة المراقب الشديدة وشخصيته المهيبة، وبعد أن ينتهي النجران من عد الأسماء الحاضر والغائب وينصرف يغلق الدكتور الباب ثم يستأنف ما انقطع من حديث ساخر، ووقفاته الأكثر ظرافة حين يرد بيت في الشواهد النحوية لوصف امرأة فيها عيوب؛ كإفراط في السمنة مثلا فلا يتوقف عن وصف المرأة البدينة بالجاموسة أو الفيلة أو بقوله: دا جبل لو طاح عليك حتموت!
ومن ظرفاء أساتذتنا الأجلاء الذين لم نكن نمل محاضراته الدكتور علي الجندي أستاذنا في الأدب الجاهلي؛ فكان يحلق بنا إلى آفاق تاريخية بعيدة في حياة العرب، ويسرف في استقصاء تفاصيل صور المفردات اليومية في البادية، ويقف عند بدء نشوء العلاقات العاطفية وتفجر إبداع الشعراء الذين صوروا حبيباتهم ووقفوا على الأطلال متذكرين ترحلهن؛ كامرئ القيس وعنترة وطرفة ومجنون ليلى وغيرهم؛ فلا نمل من سرد تلك القصص بوقفة أنيقة مفرطة في الالتزام بشخصية العالم الجاد، ولكنا لحظنا على أستاذنا الكبير شيئا مما يمكن أن نسميه وسواس النظافة؛ فكان يبتعد بمسافة متر واحد تقريبا عمن يحدثه، وهو يبتعد راجعا إلى الوراء خشية الاقتراب ومحادثه يتقدم نحوه؛ فلا نلبث إلا وقد قطعنا الممر الطويل رجوعا إلى الوراء ووصلنا إلى درج السلم!
ومن أساتذتنا الأجلاء في الصرف الدكتور عبد الله الخثران، وهو واحد من العلماء الموهوبين في هذا العلم؛ ولكنه ينسى الفصحى -أحيانا- ولا يتذكر أن في القاعة خمسة طلاب أو يزيدون من بلدان غير عربية، فمرة وجه السؤال إلى طالب أفريقي من نيجيريا ولم ينتبه أو يعلم أنه المعني بالسؤال؛ فقال له: إنت يا اللي في القرنة!
فقلنا: يا دكتور صعب عليه أن يفهم «القرنة» أي الزاوية؛ لأنها لفظة شعبية موغلة في المحلية!
وكان من أساتذتنا الكبار عبد الخالق عظيمة الذي افتقد في سنواته الأخيرة حاسة السمع، فلم نجد طريقة للتخاطب معه إلا بالكتابة له على الورق!
ولا بد أن أشير إلى عثمان النجران الذي كان وكأنه دكتور وعميد ومراقب معا؛ فهو من بيده الحرمان من الامتحان أو من المكافأة حين يزيد الغياب عن المقرر؛ فكنا نخشاه أكثر من خشيتنا العميد أو الأساتذة.