د. محمد عبدالله الخازم
في أحد أيام إبريل 1980م وقف شاب نحيف، إحدى رجليه مبتورة من مفصل الركبة، أمام البحر واضعًا يديه خلف ظهره، مرسلاً بصره بعيدًا، متخيلاً المسافة الممتدة ما بين الساحلين الشرقي والغربي لبلاده كندا، والبالغة 8480 كم. كانت لحظة انطلاق حدث، تخلده الذاكرة الإنسانية، ويُحتفى به كل عام. ذلك الشاب هو تيري فوكس الذي قرر حينها عبور ما بين الساحلين الشرقي والغربي لكندا بغرض جمع الأموال لدعم أبحاث مرض السرطان. تفاوتت نظرة الناس حينها ومشاعرهم نحو هذه المهمة المغامرة ما بين مشفق على هذا الفتى، ومشكك في إمكانية تحقيقها، وقليل من اقتنع بوجاهة الفكرة..
ينتمي تيري إلى أسرة بسيطة؛ فقد كان أبوه عاملاً في السكة الحديد متنقلاً من ولاية إلى أخرى. نشأ طفلاً عاديًا مولعًا بالرياضة دون علامات ذكاء أو تفوق تميزه عن بقية زملائه. أنهى الثانوية، ثم انتقل إلى الجامعة وفي ذهنه التخصص الذي أحبه (التربية الرياضية). وفي عمر الثامنة عشرة (عام 1976م)، وبينما كان ذاهبًا لمشاهدة إحدى المباريات المفضلة لديه، تعرض لحادث بسيط، شعر خلاله بألم في إحدى ركبتيه، أخفاه عن أساتذته حتى يتمكن من مواصلة اللعب. ومع تكرار الألم اضطر إلى إجراء فحوصات طبية، كشفت إصابته بسرطان في العظم، وعلاجه الوحيد بتر ساقه. كانت تلك نقطة التحول في حياته، وبعد العلاج والتمارين تجاوزت طموحاته مجرد تحقيق ميدالية رياضية إلى فعل شيء يسهم في تخليص البشرية من هذا المرض المزعج (مرض السرطان).
شعر الآخرون بجديته، وعجت الطرقات التي يسلكها بالناس الداعمين. حاولت بعض الشركات تبني ماراثون تيري فوكس، لكنه رفض وأصر على أن من يريد التبرع فليفعل دون أي شرط دعائي، حتى أن شركة فورد تبرعت له بسيارة (فان) مجهزة، دون أي إشارة دعائية أو إعلانية عن التبرع حينها..
خلال أربعة أشهر تقريبًا قطع تيري مسافة ممتازة، لكن القدر لم يمهله؛ فقد شعر بألم في الصدر، شُخص على أنه السرطان. أدرك أنها النهاية؛ فوقف مخاطبًا الجموع: «هذا هو السرطان، لست الوحيد الذي يصاب به.. إنه يحدث لأناس كثيرين، ولست مختلفًا عنهم.. كل ما أتمنى أن تدركوه ويدركه الناس هو: إن كل شيء ممكن التحقق متى حاولنا.. عندما بدأت الجري كنت أحلم بالإسهام في جمع مبلغ 22 مليون دولار، بمعدل دولار يدفعه كل مواطن كندي.. ولا أرى سببًا يمنع ذلك..». وفي فبراير 1981م (قبل وفاته بأيام) وصل المبلغ الذي جمع لمصلحة دعم أبحاث مرض السرطان إلى 24.17 مليون دولار. تحقق الحلم وأكثر، وأصبح ماراثون تيري فوكس عادة سنوية، لأجلها أُنشئت جمعية تيري فوكس لدعم أبحاث السرطان، وتحول إلى سباق وطني، يُجرى في جميع مدارس كندا، وفي عدد من دول العالم، يُجمع من خلاله مئات الملايين لخدمة أبحاث وعلاج أمراض السرطان.. يشاركون ولو بمجرد مشي حول المدرسة..
استطاع شاب أُصيب بإعاقة تبني الفكرة وفي ذهنه دولار واحد يقدمه كل مواطن، فهل نعجز عن فعل مماثل وأفضل؟
الإجابة في مقولة تيري فوكس: «أتمنى أن يدرك الناس أن كل شيء ممكن متى حاولنا».