د. خيرية السقاف
لماذا أثار إعلان على مدخل مكتبة تجارية عن تقبيلها موجة عارمة بين المثقفين، والمبدعين من الأدباء، والنقاد، والباحثين، والمشوقين للقراءة، والشغوفين بالفكر، ومن يضل عن كتاب فتكون وجهته إليها، أو يرغب فيه فيجد الحل فيها على الرغم من ثُلتهم القليلة؟!..
بينما الإعلان لم يكن موجهاً إليهم، وإنما لمن يشاء أن يجد موقعاً حيث تخلى صاحب المكتبة عن مساحة فيها، فشاء تقليص هذه المساحة والاكتفاء بمساحة أقل، ولم يرغب في إغلاقها كما قلقوا؟!..
لماذا أثار هذا الإعلان الحسرة، وتبارى مريدون هذه المكتبة في التعبير عن حسرتهم، ونعيهم لمآل هذا المصدر الذي يرِدون؟
أليس في المدينة الكبيرة مصادر اقتناء غيرها؟!..
والإجابة معروفة..
ما أود من هذا السؤال هو الإشارة إلى أن مصادر بيع الكتب الأدبية، والنقدية، والثقافية ذات القيمة الفكرية الجادة، والإبداعية، والمواكبة، وما يحتاج إليه المثقف الأصيل في متابعة دؤوبة لحركة النشر، أسفا ليست موجودة على نحو يؤكد رسوخ رعاية للثقافة، والفكر على مستوى «العمل التجاري»، بحيث يعكس مكانة الاطلاع، والثقافة في المجتمع، كما أنه ليس على المستوى المطلوب في الفعل المؤسساتي الذي لا يعنى كثيراً بهذا الشأن، والمؤكد أن هذا مؤشر بالغ الأهمية حين يقدر أن يبحث المثقف عن كتب في تخصصات معرفية مختلفة فيذهب إلى نظيراتها القليلة التي كانت متناثرة في المدينة، فيجدها مؤخراً قد حولت مبيعات أرففها من نوعية هذا الكتاب إلى أدوات مدرسية، مطعمة بكل جديد تقذف به المطابع، والمصانع التجارية مما يجذب فئة المنبهرين بالزخارف، وما على الهامش، بل تأسف حين تجد بقايا ما كان لديها من كتب قيمة في أرفف منزوية قد علتها الأتربة، وبكى لحالها الظلام.. وحين تسأل عن السبب يقولون لك: «حولناها لبيع مراجع تخصصات الجامعة، والمدارس»، إذن الحس الربحي فيها هو الذي يتفوق على الإفادة ورفع مستوى الثقافة بين الناس، والإيفاء بمتابعة دؤوبة لحركة الفكر، والإبداع في مجالاتها المختلفة، والمجالات الأخرى..
بينما في الجانب المقابل فإن هذه المكتبة محور السؤال قد ضخت، وظلت رافداً، وصمدت على شح مكسبها المادي سنوات طويلة بكل ما واجهته من تحديات..
لأن القيمة الفعلية للكتاب الثقافي في مجتمعنا نخبوية، ولها فئاتها الذين يصنعون أمجاداً فردية للمثقف والدليل أنها مكتبة واحدة رصينة، مفعمة بفكر من يقف وراء ما تضخه للمريد، بما توفره له من الجديد، والنائي، والنافد، والنادر، ومختلف الأجناس الفكرية، وهي كفيلة بهذا الزخم من احتجاج مريديها النخبة لمجرد أنها اضطرت لأن تتقلص مساحة لضعف مكسبها المادي، حين صمد صاحبها طويلاً يواجه الكثير بإيمانه بالهدف منها، فثقافة على مستوى رفيع ليست من اهتمام العامة، لذا فإن دخلها لم يكن ليوازي ما فيها من مكنون الفكر الثمين، ولا يضاهي جهد صاحبها لتكون فريدة في المدينة، ولأن تظل واسعة، لا تتقلص مساحتها...
لكنه سؤال آخر عريض إلى متى تكون المشاريع الثقافية المميزة مثل هذه المكتبة وحيدة، وفريدة لا يعنى بها سوى النخبة، تصارع الهجوم الشرس لتدفق المقابل الذي لا يعنى إلا بربح مؤسسيه المادي؟!..
تحية تقدير لصمود «المكتبة التراثية»، ولتوجه صاحبها المثقف، الصبور الدكتور عبدالسلام الوايل، ولمريديها النخبة الباقية..
وإن تقلصت مساحتها، فإن فضاء مداها لا يتقلص..