لبنى الخميس
أنت تستمع كل يوم آلاف الأصوات: عمارة تُبنى، مياه تتدفق، أشجار تتحرك، أجهزة ترن، طائرات تعبر، أمطار تتساقط، أذان يُرفع، أجراس تُقرع.. ما يجعل عقولنا مرتبطة بآلاف الذكريات المتعلقة بذاكرة المكان، وما يحمله من أصوات وبشر.
لكن وسط كل هذه الأصوات أين ذهب صوت الإنسان؟.. وهل ما زال لحضوره قيمة في ظل عالم مشتت بملايين الملهيات، ومئات الوسائط؟
هذا ما حاولت الإجابة عنه أثناء استماعي لمنصة البودكاست لتقديم البرامج الصوتية عبر الإنترنت لمدة عامين.. ومن ثم بدء برنامجي الخاص بعد ذلك.
وتساءلت: ما الذي يجعل عشرات الملايين من البشر يفضلون هذا الدفق الضخم من الموجات الصوتية المنسابة عبر قنوات البودكاست على كل ما تقدمه وسائل الاتصال الأخرى بثرائها البصري الغزير؟
أولاً: البودكاست يطلق العنان لخيالك لرسم الصور.. وتشكيل أدق تفاصيلها.. ففي حين تصور عدسة المخرج شكل المنزل، نوع السيارة، لون الغروب، حدة الملامح.. يترك لك البودكاست حرية رسم تلك المشاهد بريشة خيالك، وعمق تجاربك.. وإعادة اكتشافها من جديد حين تسافر بك الكلمات، وتحلق بك المعاني.
ثانيًا: البودكاست هو جرعة معرفية، نستقيها على هامش أعمالنا دون أن تعطل نشاطنا الإنساني، وتعيق مسؤولياتنا ومساعينا في دروب الحياة.. فمعظم من يستمع إلى البودكاست يفعل ذلك وهو يقود سيارته باتجاه عمله، أو يعد كوب قهوته الصباحي، أو يمارس رياضته اليومية.. ليس تقليلاً من شأن المنصة بل لسهولة انسيابها مع نشاطات حياتك الأخرى.
ثالثًا: البودكاست هو من أكثر المنصات حميمة وشخصية.. تشعر بمجرد أن تضع السماعة على أذنيك بأنه ينقلك إلى عالم المتحدث الذي قد يكون في إحدى استديوهات بروكلين أو دبي أو الرياض، ويفتح لك رغم المسافة أبواب قلبه ونوافذ عقله.. كأنك أنت المخاطب الوحيد؛ ما يعيد إلى الذاكرة دفء حقبة الراديو، وعظمة البدايات، حينما كانت العائلة تتحلق حول المذياع؛ لتستمع إلى صفوة المجتمع من المفكرين والأدباء والفنانين..
رغم قرب البودكاست إلى نفسي دون باقي الوسائط.. وفضله البالغ في تغييري وملء لحظات انشغالي وصمتي.. يظل وسيلة لا غاية.. فنحن جميعنا بحبر أقلامنا.. وعدسات كاميراتنا.. وترددات أصواتنا.. رواة قصص.. نبحث بنهم عن الحكاية..
إذن، هو ليس الصوت إنما القصة.. ليس المنصة إنما القضية.. وليس الوسيط بل المحتوى.