عبد الله باخشوين
أحببت السفر عن طريق البر لمسافات طويلة مذ كنت أرافق أبي حتى قبل أن أبلغ سن السادسة في بعض رحلاته بشاحنته (العسكرية) في طريق صعب وغير معبد، ولمسافات تعتبر قصيرة جدًّا بمقاييس سفرنا (اليوم)؛ لأنها لا تزيد على السفر إلى مكة المكرمة وجدة.. لكن (شاحنته) تقطع مسافة الرحلة من الطائف إلى مكة في وقت يبدأ بعد صلاة الفجر، وينتهي عندما تلوح مشارف مكة قبيل الغروب أو بعده بقليل (حسب نوع حمولة الشاحنة).
صحيح أن أمي لا تسمح لي بمرافقته لأبعد من ذلك.. وكان يعزيها وجود (أختي) في جدة.. أما في الرحلات الطويلة فكان رفضها لا يقبل النقاش.. رغم أن أبي يبدأ محاولة (تليين رأسها) قبل السفر بأيام عدة (لعل وعسى).. وأحيانًا كانت تضطر لحسم (الموضوع) قائلة:
- «إيش.. مجنونة أنا أفلت ولدي معاك في الخبوت.. خلي ولدي قدام عيني، وأنت الله يسهل دربك تروح وترجع بحفظ الله»..
رغم هذا كان ما يرويه لي عن مشاق ومشاكل وصعوبات الرحلات الطويلة التي قد يقطعها من الطائف وصولاً إلى (تبوك) مثلاً تثير مخيلتي؛ لأنها تحتاج لقطعها نحو (عشرة أيام) إذا لم تتعرض الشاحنة لأية أعطال (فيما بعد جربت ذلك النوع من الرحلات في [أوتوبيس] قطع المسافة من الطائف للرياض في نحو ثلاثة أيام).
وأعتقد أن أحاديث أبي وأمي هي التي فتحت مخيلتي على الكتابة القصصية، وحب السفر عن طريق (البر).. فأخذت تتبلور في مخيلتي قصة سينمائية لفيلم روائي طويل.. تدور أحداثه في (أوتوبيس) من خلال رصد أحلام (يقظة السائق) الذي -بعد تأمل طويل- أصبح يريد أن تكون حياته مجرد (رحلة طويلة) في أوتوبيس.. يحمل فيه -معه- زوجته وأبناءه وكتبه الأثيرة وأشياءه الحميمة.. ولا بأس بوجود بعض الذين يحبهم من الأهل والأصدقاء.. مع كل صخب وهدوء الموسيقى التي يحبها.. وبعد أن يضع الصغار على مقاعد وثيرة، تصلح للعب والنوم.. ينطلق بذلك (الأوتوبيس) الذي يكاد يكون أشبه بمركبة (فضائية)، تمضي بهم، ولا تتوقف حتى نهاية العمر، وكل أحداث حياتهم وتقلباتها (يرصدها الفيلم) في حالة تعكس سعادتهم بوجودهم في تلك الرحلة.
طبعًا الحالة ليست جديدة؛ فقد قام المخرج الأمريكي (سبايك لي) بوضع مجموعة من البشر داخل أوتوبيس في رحلة تستغرق أيامًا عدة للوصول إلى إحدى المدن للمشاركة والإدلاء بأصواتهم في إحدى الانتخابات التي تجري هناك.. وطبعًا تتخلل رحلتهم بعض (الحبكات) الدرامية.
أما رواية (الأوتوبيس الجامح) للروائي الأمريكي الكبير جون شتاينبيك التي صدرت عن دار (الهلال) قبل نحو عشرين عامًا، التي أحتفظ بنسخة منها، فقد حرصت على عدم قراءتها رغم حبي الشديد لجون شتاينبيك، وقراءتي لكل أعماله المترجمة (تقريبًا)، وتأثري بأسلوب كتابته في بعض مراحل تطوري.. إلا أن (الأوتوبيس الجامح) أخافتني من عنوانها الذي جعلني أمتنع عن قراءتها خشية أن يكون في أحداثها ما (يتماس) مع فكرة الأوتوبيس التي ما زلت -حتى الآن- أحلم بكتابتها.
أما في حياتي الشخصية فما زلت أراني -في بعض الأحيان- أقف في إحدى المدن البعيدة في موقف (الباصتيشن).. في انتظار اكتمال وصول (الركاب).. وأرقب قوافل (الأوتوبيسات) من خلف (الزجاج)
وهي تنطلق في موعدها المقرر.. ثم أفطن بعد وقت يطول ويقصر إلى أن ساحة وقوف الأوتوبيسات أصبحت خالية، ولم يبقَ فيها إلا أوتوبيسي الذي يقف مشرعًا بابه في انتظار أولئك الذين قد لا يأتون.