محمد آل الشيخ
كانت الحضارة الإسلامية في أوج مجدها على صلات تبادلية وثيقة بالحضارات العالمية الأخرى في شتى بقاع الارض، وترجمت إلى العربية نتيجة لهذا التواصل كثيرا من منجزات تلك الحضارات الفكرية والعلمية والفلسفية، حتى تلك التي لم يصلها الفتح العربي الإسلامي. إلا أن الاحتلال العثماني التركي البغيض الذي جثم على أغلب الدول العربية لقرون، تعمد أن يقطع صلات العرب الحضارية والمعرفية بغير تركيا، وأبقى العرب في مرحلة جمود وركود وتكلس، وكان الفساد المستشري في السلطات الحاكمة العثمانية، هو من علم العرب الرشوة وبيع الضمائر وكل أنواع الفساد بشتى أنواعه وأساليبه، كما تقول كتب التاريخ العربية، وبعد أن احتل نابوليون بونابرت مصركانت تلك اللحظة ذات بُعد تاريخي حاسم ومفصلي، أيقظت العرب من غفوتهم، وجعلتهم يكتشفون تخلف وماضوية وفساد محتليهم الأتراك على حقيقتها، وثارت من وقتها ثائرة الأحرار العرب، واتقدت الثورات على المحتل التركي الذي كان يظهر (التأسلم) لكنه يمارس القمع والعنصرية بأبشع صورها، حتى سقط العثمانيون في عقر دارهم في الاستانة، وتنفّس العرب الصعداء ومعها الحرية والسيادة الوطنية التي يعتبرها أساطين الإسلام السياسي رجسا من عمل الشيطان لا يرضاه الدين.
كما عرف العرب أيضا الثقافة والمنجزات الغربية المتفوقة التي منعها الأتراك عنهم حينما كانوا يحتلونهم، فقد كان ذلك الاحتلال المتخلف والبغيض رازحا على صدورهم.
سقط العثمانيون بثورة أتاتورك، وتحرر الأتراك، والتحقوا بحضارة العصر. غير أن (خرافة) الخلافة، وإحيائها، بقيت بمثابة الحلم التي تنافست عليها كل الحركات والأحزاب المتأسلمة، وتحديدا الجماعة الأقوى بينهم جماعة الإخوان المسلمين التي أنشأها حسن البنا في مصر بعيد سقوط السلطنة العثمانية.
لكن جماعة الإخوان هؤلاء فشلوا فشلا ذريعا عندما تولوا حكم مصر، وعرف المصريون وبقية العرب يقينا أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، وأن هذه الجماعة عند التطبيق أعجز من أن تحكم وتحقق شروط البقاء والاستمرار ناهيك عن التنمية التي يتطلبها العصر الحديث، غير أن هذه الهزيمة والفشل السياسي والاقتصادي الذريع الذي فاجأ كوادرهم قبل أن يُفاجئ المتعاطفين معهم، جعلهم يرتمون خانعين في حضن الأتراك الذين احتلوهم لقرون، وألقوا عليهم سرابيل كثيفة كالحة السواد من الماضوية والتخلف، على أمل أن يخرجوهم من ورطتهم، ويعيدوا أملهم وهدفهم وغايتهم (دولة الخلافة) مرة ثانية إلى الحياة.
تركيا التي رفضها الاوربيون، وأبوا أن تنضم إلى الاتحاد الاوربي، عادوا وولوا وجوههم إلى الجنوب، واستغلوا هذا الشعور الانهزامي العميق لدى المتأسلمين، وحاولوا تفعيله بما يخدم نفوذهم في العودة من جديد الى المنطقة، مع أن تركيا اليوم تختلف اختلافا جذريا عن تركيا الأمس، حيث إنها كما ينص دستورها دولة علمانية محضة، لامكان للشرع ولا للشريعة أي وجود في قوانينها ولا في ممارسات شعبها الاجتماعية، فالأغلبية العظمى من الأتراك مسلمون بالاسم، أما على الأرض فهم علمانيون، والعلمانية في دستورهم مادة رئيسة آمرة لا يمكن لكائن من كان أن يغيرها. لكن الإخونج وجدوا في تركيا أردوغان أملا لتحقيق ما فشلوا في تحقيقه في تجاربهم السياسية المختلفة، وأملهم أن بني عثمان الجدد يمكنوهم من حكم أوطانهم، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الإنسان العربي أن هذه الجماعة الماضوية المهزومة تطمح في أن تعود خلافة بني عثمان، وتعيد معها (الخلافة) إلا ان فكرة الخلافة انتهت من الوجود بظهور فكرة (الدولة الوطنية) وقضت على خرافة (الدولة الأممية) التي يأبون أن يتخلصوا منها.
دولة الخلافة كما وضعها منظرو الإسلام السياسي هي فكرة خرافية لامكان لها إلا في أساطير الماضويين، وأول من يدرك ذلك (سلطانهم) المأمول أردوغان، أما طموحه زعامة العالم الإسلامي أوالعربي فدونه ودون تحقيقها دولة تسمى المملكة العربية السعودية، وإن رَغِمت أنوف أذنابه الإخونج الحالمين.
إلى اللقاء