د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في المقال السابق كان الحديث عن اكتشاف الذهب في جنوب إفريقيا على يد جورج هارسون الذي أراد مساعدة جارته الأرملة في بناء بيت لها في مزرعتها القريبة من جوهانسبيرغ، وكيف لاح له بريق الذهب عندما هوى بمطرقته على إحدى الصخور المتراكمة، وكيف أدى ذلك إلى تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين، وكيف استطاعت إحدى الشركات في إستكتلاند واسمها أفريكان جولد أن تستخدم السيانيد، ثم الزنك لمعاملة الذهب وترسيبه بعد فصله من الخبث والأتربة الهائلة.
كان على الشركات الأخرى التي ترغب في استخدام طريقة السيانيد ومن ثم الزنك لترسيب الذهب، دفع جعالة، أو مبلغ من المال يساوي دولاراً وخمسة وثلاثين سنتاً عن كل أونصه من الذهب الخالص الذي تحصل عليه شركات التعدين باستخدام هذه الطريقة، التي ترى الشركة أنها صاحبة الامتياز في ذلك، وكان سعر الذهب العالمي في ذلك الوقت واحدًا وعشرين دولارًا، وكانت هذه الجعالة أو الأتاوة إن شئت القول دسمة حقاً، تحصل عليها الشركة دون عناء، سوى امتيازها الذي حصلت عليه من طريقتها المبتكرة.
استمرت شركات التعدين بدفع تلك الجعالة لمدة أربع سنوات وكانت بحق مرهقة لشركات التعدين، وتشكل نسبة عالية من صافي أرباحها.
لقد كان هناك اتحادٌ أو غرفة للمناجم في جنوب إفريقيا، تنطوي تحت لوائه معظم شركات التعدين، ورأى القائمون على الغرفة أن مواصلة دفع تلك الجعالة مرهق لشركاتهم، وأن شركة أفريكان جولد تأخذ ما لا تستحق، وتعالت الأصوات المنادية بعمل شيء ما، لإيقاف نزيف أموالهم لتصب في صالح شركة واحدة دون عناء.
دخلت غرفة المناجم في مفاوضات مضنية مع شركة أفريكان جولد صاحبة الامتياز، لتخفض تلك الجعالة، لتكون أكثر واقعية، لكن الشركة أبت وتشبثت بالوضع القائم، وأن على جميع الشركات الراغبة في استخدام طريقتهم ودفع تلك الجعالة بالتمام والكمال.
بعد أربعة أشهر من المفاوضات، وغياب الحكمة عن متخذي القرار بالشركة، اضطرت غرفة المناجم إلى مقاضاة الشركة، فبدأ مراثون طويل في المحاكم، شارك فيه عدد كثير من أصحاب الخبرة من أمريكا وبريطانيا، وأستراليا، وكندا، وهنغاريا، وكوريا، واليابان، وأمريكا الجنوبية، والهند، وروسيا، وكلف ذلك الكثير من المال والجهد والعناء.
كانت حجة غرفة المناجم أن أصحاب الامتياز لم يكونوا هم المبتكرين الحقيقيين، وأن مثل تلك المعالجات الكيميائية كانت سائدة فيما مضى، وإن كان بطريقة بسيطة، وأن المواصفة النهائية يعتريها بعض العيوب، وأن آخرين في جنوب إفريقيا قد استخدموا العملية قبل قدوم الشركة، لكنهم لم ينشروا الطريقة، وإنما استخدموها على نطاق محدود في مناجمهم البسيطة.
ولكون الموضوع يتطلب علماء وباحثين، فقد تمت مشاركة العشرات من أساتذة الجامعات والفيزيائية والكيميائين الباحثين في هذا المجال، وقد قدموا شهادات خطية تحت القسم، واستمر التحضير قبل بدء جلسات الاستماع إلى الشهادات نحو سنتين، ولم يصدر الحكم إلاّ بعد سبعة أشهر من بدء الجلسات والاستماع، وقد جاء حكم القضاة اثنان مع أصحاب المناجم، وواحد أخذ برأي الدفاع عن الشركة، وكان خلاصة قرار المحكمة، كما يلي: (استناداً للحقائق تبين لمعظم أعضاء المحكمة أن العمليات المشار إليها أعلاه لم تكن مستحدثة، وأنها كانت معروفة ومتوقعة، وبالتالي قضت المحكمة بطلان حقوق الامتياز المذكورة، فليس هناك من جديد في أمر إضعاف أو تخفيف محلول كاشف معروف، بهدف استخلاص الذهب من الكوارتز).
بعد مرور أكثر من مائة عام على تلك القضية فلا شك أن أثراً كبيراً قد بقي حتى يومنا هذا، فهناك معلومات علمية مفيدة وكثيرة، أدلى بها هذا الجمع من العلماء، كما أن عصارة جهدهم العلمي بني عليها عدد لا بأس به من الأبحاث الأخرى.
والأثر الثاني هو أن استخدام تلك المعالجة الكيميائية لاستخلاص الذهب، قد درت على جنوب إفريقيا الكثير من المال، كما ساعدت على هجرة عدد غير قليل من العلماء، ورجال الأعمال والمستثمرين، وغيرهم إليها، مما دفع بالنمو الاقتصادي والاجتماعي لجنوب إفريقيا قدماً، وأتاح الفرص العديدة من الوظائف لأبناء جنوب إفريقيا الأصليين، كما أنه ساعد على كشف المزيد من المناجم لاستخراج معادن أخرى غير الذهب، والسعي لابتكار طرق أكثر كفاءة وفاعلية.
الأثر الثالث، هو استخلاص العبر من الموقف المتشدد للشركة صاحبة الامتياز التي فقدت كل شيء بسبب طمعها، وإصرارها على الاستمرار في حليف ظاهر، لا يمكن تحمله من قبل شركات التعدين الأخرى، مما دعاها إلى اللجؤ إلى المحكمة، وكان من الحكمة الاكتفاء بجعالة منصفة وواقعية مستمرة، خير من حيف تبعه فقد كل شيء، أو كما يقال: قليل مستمر، خير من كثير منقطع، لكن طمعهم مع الأسف جعلهم يتطلعون إلى كثير مستمر، وهذا ما أدى بهم إلى ما وصلوا إليه.