ارتباط الوعي بالأسطورة أثبتته الحضارات المندثرة كلها، وأثبته كذلك ما تبقى من رسوم العصر الحجري. ومن يطلع على حضارات وادي الرافدين (الأولى في التاريخ) والحضارة الفرعونية، يكتشف مدى العلاقة الوثيقة بين الأسطورة والممارسة اليومية لتلك الأقوام.
الأسطورة في المجتمعات البدائية والحضارات القديمة، كانت موجهة بالأساس لمساعدة الإنسان للسيطرة على الطبيعة وتسخير مواردها للحفاظ على البشر. وقد استطاع الإنسان من خلال الأسطورة «الفاعلة والمتطورة»، حل المعضلة الكبرى بعد الانفجار السكاني الهائل؛ وشحة الموارد الطبيعية.
كانت المرأة في المجتمع البدائي قد لاحظت أنه؛ عندما تسقط حبة القمح «الميتة» شكلاً في التراب ويهطل المطر؛ تنبت سنبلة تحتوي على عشرات الحبات، ويمكن إعادة الكرة مرات ومرات، فلا بد لتلك المرأة أن يتكون لديها تفسير لهذه الظاهرة... أقول المرأة وليس الرجل؛ لأنها كانت ثابتة في مكان واحد أكثر من الرجل؛ بسبب حضانتها وتربيتها للأطفال.
هذا لا يعني أبداً أن المرأة في المجتمع البدائي كانت أقل شأناً من الرجل، بل العكس تماماً، فالرجل كان صياداً وحسب، أما المرأة فقد كانت القائدة والمربية والطبيبة والموجهة والحاكمة والمعبودة في ذلك المجتمع. وهي كذلك صانعة الفكر الذي نسميه في عصرنا «اسطورة». والرجل الذي يقصّر بواجبه كان يتلقى أشد العقوبات. لم يستطع الرجل الحصول على دور مهم إلا في عصر الحضارة، حيث فائض الإنتاج الزراعي وتدجين الحيوانات، الذي أنتج «ثروة» تتطلب إعادة هيكلة المجتمع على أساسها.
المرأة التي فسرت نبتة الحنطة (بعالم علوي نراه، وعالم سفلي لا نراه) ثم (تناسخ الأرواح)، وفي العالم العلوي «آلهة» متعددة: (فواحد للشمس وآخر للمطر وثالث للخير ورابع للشر وخامس للريح ...إلخ.) أما العالم السفلي فله «إله واحد فقط». وهذا دليل على أن الأسطورة في ذلك الوقت كانت سبيلاً لتفسير الظواهر والتعامل معها، ولذلك كانت متطوّرة كلما تم اكتشاف جديد. ولم تكن الأسطورة تخص فرداً ما، إنما للمجتمع بمجمله، وهي لهذا السبب دخلت في العرف الاجتماعي والذاكرة الجمعية على شكل أناشيد أو أشعار لآلاف السنين.
«الثروة» في عصر الحضارة أعادت هيكلة المجتمع؛ وتوزيع الأدوار بين الرجال والنساء وحتى الأطفال، ليس لخدمة الإنسان بخيرات الطبيعة، إنما لخدمة الثروة ذاتها، وبالتالي انقسم المجتمع إلى ظالم ومظلوم وما بينهما. وقطعت الحضارة شوطاً لآلاف السنين، من الوثنية إلى العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية الحالية، وبقي الظلم هو سيد الموقف. وتحولت الأسطورة إلى عصى مسلطة على المظلومين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح؛ هل توجد أسطورة في الوعي البشري هذه الأيام؟ .. الجواب نعم وليست أسطورة واحدة بل أساطير!، فتوجد أساطير تنتشر في الوعي بدون رقيب مثل: (ديمقراطية، حقوق إنسان، مجتمع دولي، ليبرالية جديدة، محافظين جدد ...إلخ)، وإن حاولت إيجاد تعريفات لهذه القمامة الفكرية فسيذهب وقتك الثمين سدى.
- د . عادل العلي