حين أريد أن أصنف عبدالرزاق عبدالواحد بين أقرانه من شعراء العراق كالسياب وشاذل طاقة والبياتي ونازك وبلند الحيدري فلا أحتار في أن أجعله إمامهم ذلك أنهم برعوا في الشعر العمودي أو الشعر الحر وإن كانت لهم تجارب في الشعر المقفّى الموزون إلا أنهم ليسوا كعبدالرزاق الذي اتخذه عنواناً دائماً له فتميز عنهم في ذلك! وإذا شئنا أن نتطرق لشعر عبدالرزاق فأشهر الأغراض المتنوعة التي طرقها طيلة حياته الشعرية الحافلة بالدراما المتقلّبة، الحماسة الوطنية التي تنتفي فيها الطائفية والقومية وهذه إحدى حسناته التي ينفرد بها والرثاء التي تحضر فيه العاطفة الحقيقية بينما ينحو في شعره الحر بالغزل المبتذل الذي ليس فيه روح الغزل الحقيقي الذي يستهوينا عند أصحاب الغزل وإنما هو عبث متكلف!:
دقت نبضات القلب على باب حبيبي
وحبيبي غافي
حملت مع القلب شغافي
وطرقنا باب حبيبي
فاستيقظ مذعوراً
غطى شفتيه
وأحكم إغماضة عينيه
فغافي لفظة جاء استخدامها كاسم فاعل غير مستساغة وفيها من الابتذال ما يجعلها تنبو في النطق وإن كان أصلها فصيح! وهكذا يجري أكثر شعره الغزلي دون معنى جديد أو صورة ملفتة!
ومع هذا فشعره له من الجمال والبراعة ولكنه متوسط في ذلك فليس فيه من الإسراف والعمق الذي يميز الشعراء الكبار وإن لُقب بأحدهم فإن ذلك من باب المقاربة ليس إلا! وألفاظه تقليدية مع التفاتات جميلة أحياناً وتجربته الشعرية كان لها السبق في إشباعه بالعاطفة الجياشة الصادقة كما أسلفت وخصوصاً في غرض الرثاء أو حب الوطن:
كـبيرٌ عـلى بغــداد أني أعافُها
وأني عـلى أمـني لدَيـها أخافُها
كبـيرٌ عليها بعـدَ ما شابَ َمفرقي
وَجـفّتْ عروقُ القلب حتى شغافُها
ولكنه غريب كغربة أصحابه الذين هاجروا وتركوا الدور لأسباب سياسية أو حروب داخلية فلما عاد كانت الديار قد تغير لونها وطعمها فلم تكن تلك الليالي المقمرة قد أزف زمانها بالرحيل وشاخ قمرها وسقطت كواكبها وأنجمها بعد في فضاء البلد الكبير ولم تكن تلك الكلمات قد اغتسلت حروفها بمياه دجلة والفرات حتى رأى عياناً ما لا يرغب أن يراه! فقد بكت عيناه في أيام وشهور قلائل ما لم تبكه في سنين عمره المديد وذرفت دموعاً غالية لو كانت في كأس الوطن لارتوت منه عطشى الأحزان:
لقد حباني عراق الكبر تزكيةً
أني به، وله.... مستنفر كلفُ
أني لي فيه ظلاً لو وقفت ولا
شمس لأبصرت ظلي فوقه يرفُ
لم تطل به المدة كثيراً ليبصر ظله يرف طولاً وعرضاً كجناحي طائر يخفق في الريح مداه، لم يكن له عمر آخر لكي يعيذ ناظريه مما رآه من شبح الموت وهو يجوب صفحات المنازل والشوارع يتخطف الأرواح المقطّعة وهي تبتلع السم الزعاف رغماً عن حبها للحياة:
عد بي لبغدادَ أبكيها وتبكيني
دمعٌ لبغداد.... دمع بالملايينِ
عد بي إلى الكرخ أهلي كلهم ذُبحوا
فيها سأزحف مقطوع الشرايينِ
حزن يخلف بكاء يتبعه صيحات أصبح الفضاء مسرحها حتى تستحيل صدى ثم تعرج على عتبات بابل فلا يستسيغ أن يسمعها من بإذنه صمم من وجع الفراق في حين غدت آذان الأموات في بطون الديدان لا حراك ولا صوت وسندباد بغداد قد رقد رقدته الأخيرة فلا يستطيع أن يعود إلى أرض الأجداد بينما بقيت كلماته بكاء على العراق يرددها أبناؤه كلما شعروا بوجع الفقد يقول في رثاء الجواهري أيقونة الرافدين:
لا الشعر أبكيه لا الإبداع لا الأدبا
أبكي العراق وأبكي أمة العربا
أبكي على كل شمسٍ أهدروا دمها
وبعد ما فقدوها أسرجوا الحطبا
وبعد... لم يكن عبدالرزاق مندائياً مثل ما كان عراقياً أصيلاً حيث لم يكن يملك حبالاً ليلعب عليها وإن اتهمه البعض لكنه أثبت خلاف ذلك بصدق الإخلاص في مدح من كان يكنّ له الولاء قبل ومن بعد السقوط فكان ذلك لجاماً لمن شكك في حبه لوطنه.
- زياد السبيت