الثقافية - محمد هليل الرويلي:
لاَ نَدري كيف نبدأ الحديثَ عن تونس الخضراء، مُلْتقى الحضارات ومُلهمة الفنّانين والشعراء، هنا في غرّة شمال إفريقيا، تُجَاوِرُ مع البحر والجبال والصّحراء، مَنحت إفريقيا اسمَهَا القديم «إفريقية» سليلة «قرطاجة»، تكوّنت مزيجًا ثَرًّا من حضارة الفينيقيين القرطاجنيين. يا لبهجة العمر أيها الأعرابي وصلت قرطاج التي كان دستورها الأبرز في العالم القديم، وتنفست هواء المناطق والنواحي والمقاطعات بتونس التي أعطت من ألقها خيوط ضوء تساهِمُ في نسْج الحضارة الإنسانيّة، وترسُمُ ملامح ريادة حقيقيّة وهي التي كان لها السّبق عربيًّا وإسلاميًّا في تحرير الرقّ (1846م) وكتابة الدّستور (1861م) وتحرير المرأة (1956م). فيا لأنسك وأنت تجر رداءك قادمًا لتونس ابن خلدون وخير الدّين باشا وأبي القاسم الشابي ومحمود المسعدي..
غير أني سأذكر أنه بعدما عانقت القوم، وأطالوا الترحاب، استدركوا تعظيمًا وإجلالًا في وصف منجزهم الشعري الذي ورثوه وسيورثونه للأجيال بعدهم: دع في الحسبان يا أعرابي إبان إزماعك الاستهلال بنشر حراكنا الشعري أنه كان عسيرًا علينا الإحاطة بهذه العجالة، الإحاطة بمجاميع الحركة الشعريّة. حتى وإن خصصت الجزء الأول لذلك كله. لكنّ لعل (الموسوعة التونسيّة) ستسعفنا بهذه الرحلة الشيقة مع أعلام الشعر ومدارسه بمختلف رؤاه واتجاهاته, وبمختلف الحساسيات والأجيال وستقدّم لنا توصيفًا شاملاً دقيقًا، نستثمر بعضه, كما تستثمر من خلال أصوات الشعراء والشاعرات ما يعود على المتابع لصحيفتكم التي تُرقّن لها نفعًا وفودًا, من طوائب مشاهدات بلدان العرب, بعد أن تزجيه بفيض غير محتور, وتوشيه من الرصائع, وتفعم براجده بالنصع, فجعلت من هذا المُسدل الذي تجتهد بتحسينه وتزيينه, وتمد فرشه وبطائنه الوثيرة ووسائده الإستبرقية, في هذا المتكأ الفكري الحضاري والمنتدى الأدبي الفني والثقافي «المجلة الثقافية» الذي تولمونه من وقدٍ توقدون مشاعيله من المحيط إلى الخليج على نواصي أطراف أصابع عربية بديعة, تتشابه كتوائم من الشموع البيضاء..
ثم ألا فلتعلم يا رعتك القوافي التونسية ارعها يا أعرابي, كما أنت اليوم مرعيُّ بأعيننا، ومكين بين من أوثقوا بالعروة وشدوها بالنّكل الغلاظ, وتمسكوا متدرعين بلأمة اللغة, ذوي المدية المحتدة, وهم قابضون على الفرندات الملتمعة, حين تنز وتبز للعلياء متصدرة طلائع الجموع بشموخ البسولة. ولتعلم أنهم حين أدلوا بواردهم إنما ليغترف من البئر التي حفروها في نهاية القرن التاسع عشر, هذه البئر الثجاجة التي انفجت وانبجست عنها أرض تونس ورباها, ومازها من سلسبيل العذوبة أن أصبح وأمسى شاربها يجري كما تجري وتدفق القوافي والأوزان على أرض الخضراء. إنك هنا يا أعرابي إلى جانب الشعر التقليدي الذي لم يبرح المواصفات الإيقاعية للقصيدة التراثية وأغراضها من مدح ورثاء وغزل، ومن وصف للطبيعة والإخوانيات, وما تمخض الفكر الإصلاحي الذي انطلق في عهد المشير أحمد باشا إلا ليعلن ميلاد لون جديد من الشعر، انفتح على قضايا العصر. ولعلك سمعت صوت أول من كتب عن هذه القضايا «الشاعر محمود قابادو»، وأصوات كل من انبثق بعد تجربته في أواخر القرن نفسه, الحركة التي عرفت بـ (الشعر العصري) التي امتد حضورها حتى العقد الثالث من القرن العشرين. وكان من أبرز أعلامها المؤسسين محمد السنوسي وصالح السويسي القيرواني ومحمد النيفر وحسن المزوغي.. وكل من دعت حركتهم الشعرية لهجر أغراض الشعر العربي القديم، وفتح القصيدة على قضايا العصر وتوظيفها في تصوير مظاهر التقدم التي أفرزتها الحضارة الغربية الحديثة.
هل تريد يا ابن الجزيرة أن نسوح بك أطول, ونجول بك أبعد, في راعدة وبارقة يختلج ويختلط هطل أبياتها، وتمتزج قوافيها المتجددة على أرض الحديقة الخضراء المسكونة بالشعراء التونسيين. هذه الأرض التي شكلت أعظم خرائط الشعر العربي وجغرفته تجديدًا. هل تريد أن نطلعك على أهم محطة في مسيرة الشعر التونسي طيلة هذه الفترة؟ قف إذًا وأنخ «رَحُولك» بجوار ذلك التمثال في «توزر»، هذه الولاية ولد ونقل جثمان شاعر إليها بعد إصابته بمرض «القلاب»، سنوقد نارنا في هذا البطين لأنه يتسع لقلوبنا, ونمد نظرنا للتاريخ القريب المتصرم ونسك فجاج من ذاكرة الشعر الممتدة, سنطيل الحديث معك, فاستنشق عبق التاريخ، وهو مزمل برداء قصيدة مكتملة الأنوثة, حين تتجلى وتتثنى ليمتد ويرتد صداها من الجيل السالف للخالف, قصيدة فحلة تليق بفحولة الشعراء التونسيين. لن نطيل عليك التقريظ يا أعرابي, هي بلا منازع تجربة أبي القاسم الشابي؛ إذ لا يمكن بأي حال مقارنتها من جهتي العمق ودرجة الاكتمال الفني بما أنشأه أي من الشعراء السابقين أو المعاصرين له. فصوت هذا الشاعر بمنزلة الصرخة المدوية التي ارتجت لها أركان الوسط الثقافي التونسي بأسره، وامتد صداها حتى المشرق العربي. وإننا لا نُخالك يا أعرابي سوى أحد من يرددون خالدته التي يحفظها سائر أشراف العرب:
إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة
فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي
ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ
ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة
تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ
فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـاة
مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ
كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ
وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ
الشعراء ذاكرة المستقبل
«ذاكرة المستقبل» عنوان استعاره الشاعر التونسي أستاذ الشعر والأدب والنقد بجامعة سوسة بجمهورية تونس الدكتور «محمد المنصف الوهايبي» من الشّاعر اليوناني الشهير «يانيس ريتسوس» استهلالًا لهذا المحور المخصص حول الحركة الشعرية التونسية, وتطلع أن يكون مفتاحًا لهذا الكتاب المخصوص بنماذج من الشعر التونسي الحديث. والمسوّغ فيه سؤال تضمره هذه النماذج: في أيّ زمن تعيش القصيدة؟ في الماضي التاريخيّ أم في الحاضر التاريخيّ؟ أم في المستقبل التّاريخيّ؟
لكن قبل أن ندلف لما قاله ضيفنا الشاعر محمد الوهايبي دعونا نعرض جزءًا من قصيدته «سيرة الهلالي الصغير» التي حصد على إثرها وتوج بجائزة وبردة شاعر عكاظ في دورتها الثامنة:
ولربّما في مثل هذا اليوم من ذي القعدةِ انحدرُوا
إلى وادٍ بنخلة.. كنتُ صبْحَ هلاله..
أعْطـُوا إليهمْ.. كالغزالِ.. أنا الهلاليَّ الصغير..
وَهُمْ وكلٌّ أمّةٌ كانوا على سُحُبِ النجائب؛ وهي تـُرْزِمُ تحتهم؛
يتناشدونَ وينشدونَ:
عُكاظُ سوقُ الشعرِ..
تلكَ حديقةُ العربيّة الأولى.. كبرْنا كالنخيلِ بها..
تعلّمنا القِيافةَ في مرابِعِها..
شعرية الأثر والنسيان
لدى التونسيين
قد لا تكون القصيدة الواحدة، متى تمنيناها في أبعادها الزمنيّة، سوى «قصائد» تشكّلُ اللّحظات الزّمنيّة مجتمعةً، مختلف عناصرها ومكوناتها. وبما أنّ زمن - في ما يقول أهل الاختصاص - يقع في كلية الزمن فالقصيدة النّاشئة في زمن ما لا يمكن إلا أن تتواصل فيها سائر الأزمنة وتتنادى. هذا ما قال الناقد الدكتور محمد الوهايبي في مطلع تناوله للحركة الشعرية التونسية مشيرًا إلى أنه إذا كتب الشاعر «أتذكّرُ» فإنّ قوله لا يحيل على أشياء الماضي فحسب، وإنّما على أشياء لم تقع، أو هي ما تزال في طيّ المستقبل. بل إنه ليتهيأ لي أنّ التّذكر، ليس إلاّ ضربًا من تأمّل النسيان والتفكير فيه. ولعلّ هذا ما يجعل النماذج التي نعرض إليها، في خطف كالنبض، تنضوي على اختلافها، إلى «شعريّة الأثر». أعني أثر اللّغة التي يطويها النسيان, أو ما يتبقّى بعد أن تُعفيّ الذّاكرة كلّ شيء. «أخطاء لم يرتكبها أحد» لرضا الجلالي. وقصائد مثل «الحجارة البحريّة» و»فرغانة» لعلي اللّواتي حيث تنهض الأشياء والأسماء بـ»طوبوغرافية متخيّلة»، تصل بين أزمنة وأمكنة متحوّلة، وتكتنه الفضاء من حيث هو مكوّن جماليّ لشعريّة الأثر، وتؤسس الكتابة تَغْريبًا لأوضاع طبيعيّة أو لأشياء مألوفة. فالحجارة البحرية «شيء عاديّ»، ولكنّها تصبح شعرًا في يد شاعر يدرك معنى الشعر، ويجعل الشيء الذي ليس له مضادّ، يكتسب بنيةً مخصوصةً في حقل الظواهر، ويتمدّد خارج عالمه الخاصّ، على أساس من استراتيجيّة الانعطاف، حيث يتحدث إلينا، ونصغي له، و نتواصل معه. الحجارة في هذه القصيدة تفكر وتحلم، حتى وهي مستغرقة داخل شكلها الذي هو بيتها، أو وهي تستمرئ لحم الطير اللائذ بها من الريح. وإذا هي صورة الكائن الذي ينسحب إلى صمته وهو يتهيأ للخروج, الكائن الذي يكون حيث لا يوجد.
مضيفًا بأن كل ذلك: يتنامى في سياق شعري، يتخيّل فيه الشاعر الماضي أكثر ممّا يستعيده. فالشّعر عند علي اللّواتي - في ما يبدو - تجربة شموليّة، والحداثة «حدثية». ومن ثمّ يندّ شعره عن التّصنيف الذي دأبنا عليه في دراسة الشّعر العربيّ المعاصر، ويصعب أن تقرنه بأحد من روّاده في المشرق. فهو شعر يتجاذبه - إذا استعرت عبارات أهل الفلسفة - طرفا «الأبولونية» (التوازن والتناسب والتناغم..) و»الدّيونيزوسيّة» (المصادفة والعشوائيّة والغرابة..) أو هو يراوح في الفسحة القائمة بينهما، شكلاً وصورة، ودلالة.
حتى الظل في تونس يمسك ريشة ويكتب قصيدته
هذان الطّرفان بكلّ ما يتعلق بهما من سمات هما اللّذان يتجاذبان متخيّرنا الشعريّ، بنسبةٍ أو بأخرى. فالقصيدة عند باسط بن حسن متاهة فاغرة، حتّى وهي تحتفل بالأشياء وتسمّيها؛ ففيها تتقاطع الخطوط وتزدوج، أو تمتدّ في هيئات متشابكة مضفورة، أو تنكسر وتنحني وتلتوي، كما هو الشأن أيضًا عند عبد الفتاح بن حمّودة أو يوسف خديم الله. فالشّاعر يؤدّي هذه الخطوط والهيئات في جمل وصور تنفكّ عن النسق اللغوي القائم، فلا مبادرة إلا للكلمات، حيث تضطرب في كل كلمة كلمة أخرى، وتتململ؛ إذ بإمكان الظلّ أن يمسك الريشة ويكتب، أو للون أن ينتصب رفيقًا غامضًا لأشياء من المحسوسات والمجردات. وكأن الشعر عند هؤلاء ليس تسمية الأشياء بما هي عليه، وإنما طمس وجه التقابل فيها بين الصورة والعمق، في سياق يجعل الشعرية تكمن داخل التعبير، وليس داخل المعبر عنه. كما أنه ليس ثمة ما يصل شعر هؤلاء بـ»النصّ الشعريّ المشرقيّ»، إلاّ أن»الأب» يمكن أن يخفي أبًا آخر. والشعر العربيّ الحديث محكوم في كثير من نماذجه برغبة حافزة، في مضاهاة النصّ الشعريّ الغربيّ. ولا يقدر أحد أن يدّعي السّلامة منه ومن أثره. وبالتالي لا نستغرب أن يشج كثير أو قليل من شعرائنا نصوصهم بهذا النصّ (رمبو - بيرس - شار - ريتسوس..) ما دامت الكتابة جيولوجيًّا كتابات، والنصّ تتجاذبه نصوص، أو هو عمل مرجأ باستمرار، يجترح في كلّ مرّة أصلاً من أصوله وطقسًا من طقوسه.
وتابع «الوهايبي»: إنّ القصيدة الّتي يكتبها عبد الفتّاح أو باسط أو يوسف خديم الله أو خالد النجار هي «القصيدة الموضوعيّة» التي كان يحلم بها «رمبو» أو «مالارمي» أو السّرياليّون، حيث المبادرة للكلمة التي تنظر وتتكلّم وتسمع. وربّما لا يشاركهم في هذه الخاصّة إلا فتحي النّصري وحافظ محفوظ ويوسف رزوقة. وليس محمّد الغزّي؛ فهو مأخوذ بالأشياء القريبة الدّانية، وأكثر نصوصه هادئة معتدلة، من أظهر سماتها صفاء اللّغة، وانسجام صورها السائغة المقبولة. ولعله أن يكون من الواضح أني أستثني في هذا السياق قصائده «العموديّة» التي أعدها (كما هو الشأن في كثير من الشعر العمودي المعاصر، بما في ذلك العمودي الذي كتبه صاحب هذا الكتاب وانقطع عنه).
(قبل أن تبلغ القيروان)
رائعة من روائع الشاعر محمد الغزّي يقول فيها: سوف تبصر قصّادها بين حِلّ ومُرْتَحِل، وقوافلها بين باد ومنتجع
وترى الريح من قبل نشأتها
والكواكب من قبل دورتها
والعناصر قبل انبثاق العصور
قبل أن تبلغ القيروان
سوف تأوي إلى امرأة لست تذكرها، وستأكل فاكهة لست تعرفها
وترى الليل قبل اشتعال الكواكب،
والأرض قبل انعتاق العواصف،
والعشب قبل اندلاع الفصول
الشعراء في تونس يحولون النجمة لماء والمركب لطائر
إنها محاولة لتثبيت الهارب الزائل، والاستمساك به، أو ردّ آخره على أوله، أو هي «مسطح عاكس»، يقع عليه ما يقع من بائد العوالم، وينجرف إليه من أضواء الماضي الشعري وظلاله؛ إذ هي تتأبد في صور وتراكيب مكررة الملامح والسمات؛ لتلحق بأشباه لها ونظائر في شعر الشريف الرضي أو البهاء زهير أو ابن الفارض أو ابن عربي، وربما في نصوص مجهولة أو متهمة الأصل. على حين أن نصوص الغزّي القصيرة خاصة ذات لغة شموليّة، تدور في مدارات قريبة إلى عناصر الكون، وتخلص إلى بداهة الأشياء، على أساس من لعبة القلب أو ما يسمّيه العرب «قلب الأعيان»، ولا تتردّد في نسج شوابك القرابة بين الاسم والمسمى: فالنجمة تتحوّل إلى حبّة ماء، والمركب إلى طائر، والكلمة إلى شبكة، وما إلى ذلك من تلعب الأسماء بالأشياء في «كتاب الماء، كتاب الجمر» أو «ما أكثر ما أعطى» ما أقل ما أخذت أو «كثير هذا القليل الذي أخذت». فهي تنتسج كلّها من خلال نقض النقيض ونبذ الحد والفارق. وربما أثارت بعض القلق في عوالمنا الأليفة وأشيائنا التي استتبّت أسماؤها، وهي تنفذ إلى تفاصيلها، وتقف على محتمل حركاتها.. إلا أنّها تظلّ في الأعمّ الأغلب متناغمة متوازنة، خاصة أنّ الغزّي يحتفظ بالبنية الإيقاعيّة (الخليليّة)، ولا يتحرّر من الرّويّ والقافية. وتكاد نصوصه القصيرة من هذا الجانب تكون صورة من قصائده العموديّة «الغنائيّة»؛ إذ لا يعلو صوت على صوت الشاعر. ولا خروج على التوسط، ولا مناهضة إلا لتشتت المعنى. وهذا ما نقف عليه أيضًا في قصائد محمّد الخالدي ذات النبرة الصّوفيّة الغنائيّة أو في قصائد جميلة الماجري أو محجوب العيّاري.
واستدرك «الوهايبي»: لكن الأمر مختلف عند الشعراء الآخرين الذّين أشرت إليهم؛ فهم - على اختلاف أصواتهم - أقرب إلى نمط «القصيدة الموضوعية»، التي هي محصلة أنا أخرى غير تلك التي يعيشها الشاعر في واقعه ومجتمعه، فثمة في شعر أولاد أحمد أو فتحي النصري أو منصف المزغني مسافة بين الشاعر وخطابه، وكأن صوت الشاعر صوت ثانٍ، أو هو في حالة حلم فاعل؛ إذ يترك للمتخيل أن يفعل فعله في الكلمات وهي تتدافع وتتجاذب، أو هي تنفي ذاتها في فعل خلقها، أو تتكلم على إثر ما تقوله اللغة بصوت خفيض أو بصمت أقل. إن نصوص هؤلاء تضمر تصورًا «جديدًا» للشعر، بَذَرَ بذرته شعراء الحداثة، في أواخر الستينيات، ثم تعهده هؤلاء، وذهبوا به بعيدًا، سواء انتظمت نصوصهم بنية إيقاعية «خليليّة» متطورة (فتحي النصري - أولاد أحمد - المزغني - حافظ محفوظ) أو «نثريّة» (باسط بن حسن - يوسف خديم الله - بن حمودة)، أو «خلاسية» تطعم فيها هذه تلك، أو تزاوج، دونما قصد، بين «الخليلي» و»النثّري» (عبد اللّه مالك القاسمي خال النّجار).
وبيَّن الوهايبي أنّ «القصيدة الموضوعيّة» قصائد، قد يصعب أن نستخلص منها حكمًا عامًّا تصنيفيًّا يستوعب الجزئي والكلّي معًا؛ لأن هذين كثيرًا ما يتدافعان في النصوص التي نحن بصددها؛ الأمر الذي يكاد يقتضي في كل نص مراجعة ما استتب من قوانين، ونظرًا آخر في كفايتها؛ فقد يجلي لنا القانون صفة من صفات هذا أو ذاك، ولكنه يحجب على أخرى من هذا أو ذاك في الآن ذاته، وقد يذهبن في الظن أن هذه النصوص تنهض على قواعد لا على قوانين، وأنّ من كفاية القاعدة أن تحوز الجزئي الخاص أو المملوك اللغويّ. لكنّ القاعدة تستتبع الحكم بالصواب أو الخطأ. فإذا تعارض معها الخاص الشعري - وهو كثيرًا ما يتعارض - عُدّ خطأ أو شذوذًا أو عدولاً، ونظامًا من الكلام غير معياريّ.
قصائدنا تجري إلى مستقر لها
وزاد الوهايبي: القصيدة «الموضوعيّة» عند أولاد أحمد وفتحي النصري والمزغني قصْدٌ في اللغة، وتوسط (أي نوع من الاقتصاد اللغوي)، يفيضان إلى نظام شعري صارم، ويجليان «حرفية» في إدارة فنّ القول. وربما اضطرب هذا النظام اضطرابًا يسيرًا في قصائد حافظ محفوظ ومحمد السبوعي اضطرابًا قد يرجع إلى غنائيتها المفرطة حينًا، وإلى البنية الإيقاعية «الخلاسية» التي يتوخيانها حينًا آخر. أما عند أولاد أحمد وفتحي النصري والمزغني وعبد العزيز الحاجي فإن القصيدة تجري إلى مستقر لها، أو هي تتبع نسقها، بنيةً ونظامًا وتَحْرِفُه جملة وصورة، بحيث تبد هنا لديهم ذات الثنائية التي وقفنا عليها في شعر علي اللواتي: «أبولونيّة» من جهة، و»ديونيزوسيّة» من أخرى. فالأولى تحدّ نظام القصيدة وتضبطه. أما الثانية فتطلق الصّورة في فضاء المتخيل وترسلها.
ويتقوّض هذه لثنائيّة في نصوص باسط بن حسن ويوسف خديم الله وعبد الفتاح بن حمودة، فهي أشبه بـ»طاق زخرفيّ» هو مجرد رسم في جدار قائم. أعني نافذة صغيرة مرسومة، لا تفتح على شيء ولا على فضاء. لأقل نافذة عمياء ليس لها من كلمة «نافذة» إلا الدال؛ إذ هي لا تخرق الحائط، ولا تجوز منه، ولا تخلص عنه. عتمة للعين وغشاوة، ما دام هذا الشعر يجري وينعطف في مناطق الدهشة والغرابة والمصادفة و»العشوائيّة» واللغة التي لا ذاكرة لها إلا النسيان. أشبه بنوافذ بودلير ومرايا مالارمي وأدونيس. عتمة لليد أيضًا. لكل ما يستعصي على الاتصال واكتناه المعنى. ولكأني وأنا أقرأ هذه القصائد أتملى الميناء في ساعات الصباح الأولى. أرى مراكب وزوارق صغيرة بألوان رمادية مبلولة. أقول هي «هنا» مثلما هي «هناك» مثلما هي «هنالك». أعني إذا استنرتُ بلغة المعاصرين «وجودها في الكون» و»وجودها في كونها لخاص».
واختتم: ذلك هو بيت الشعر الذي تسكن فيه الشعريّة، وتسكن إليه في نصوص الذين ذكرت. ولكأني أنظر إلى صورتي في المرآة، وأتملاها وهي تنظر إليّ ولا تراني. مزيجٌ من شفيف العين وعتمتها. أشبه بامرأة يانيس ريتسوس:
«فتحت المصاريع، علّقت الملاءات على عتبة النافذة
حدق طائر في عينها.
همست: «إننّي وحيدة»؟
دخلت الغرفة
المرآة - أيضًا - نافذة.
لو قفزتْ منها لسقطت بين ذراعيّ».
أنثنة القصيدة التّونسيّة (خطوطٌ فاتحةٌ لحضور الجسد مكتوبًا)
فيما بيَّن الباحث «محرز راشدي» كيف استطاعت الشّاعرة التّونسيّة بصورة عامّة أن تخطّ لها طريقًا إبداعيًّا، له خصوصيّاته الشّكلية والموضوعيّة؛ فتمكّنت من التّعبير عن همومها وهواجسها في هذه «الضّيقة الكبرى» دون أن تؤجّر صوتها للسان ذكوريّ، أو تفوّض من عداها ليفاوض على قضاياها المتعدّدة، خاصّة أنّه ما زال يطرح على صاحبه أسئلةً مرّةً، بوصفه خزّانًا من المعاني، وقنطرةً تجسّر لنا أن نقيم في العالم بالفعل. مبينًا في الوقت نفسه أنه ليس من المساعي التي يطرحها أن ينجز جردًا بأسماء الشّواعر التّونسيات أو بعناوين منجزاتهم الإبداعيّة، كما أنه ليس من مراميه أن يستغرق كلّ المدوّنة النّسوية. وتابع قائلًا: الأمر - إذن - يتعلّق بمحاولة تقديم بعض الخطوط العريضة الّتي اقترنت بأصواتٍ شعريّة، تبحث لها حضورًا في العالم فريدًا، وفي القصيدة متميّزًا. فمعلوم أنّ المرأة العربيّة بصورة عامّة ظلّت ضحيّة للهيمنة الذّكورية لعصرٍ مديدٍ، بعد أن مورس عليها صمت طويل، ووقعت تحت شطبٍ غير رحيم، ولم تُفلت من الضّيق والحصار.
فنجد أن الشّاعرة مليكة العمراني اختارت لمجموعتها الشّعرية الصّادرة بتاريخ 2013م عنوانًا دالّا، هو «شرّدني الطّين ذات تفّاحة». ورد العنوان من جهة البنية اللّغوية جملة فعليّة (فعل + م. به + فاعل + م. فيه للزّمان)، أمّا من جهة الدّلالة فيعتبر في الدّرس النّقديّ الحديث عتبةً نصّية، يلج من خلالها القارئ إلى المتن، ويمتلك مفاتيحه، ومنصّةً أولى تتكثّف فيها الدّلالات والمعاني المنتشرة في بقيّة الخطاب؛ إذ ترتدّ بنا الشّاعرة إلى أزمنة سحيقةٍ وتحيي في القرّاء ذكرى بعيدة موصولة بلحظة الخلق الأولى والخطيئة الأصليّة.
أمّا بالنّسبة إلى الشّاعرة أمامة الزّاير فاخترنا أن نسجّل بعض الملاحظات بشأن مجموعتها الشّعرية «ممرّات سرّية» الصّادرة بتاريخ 2017م. ولا شكّ أنّ هذا العنوان يُدرس من جهات متعدّدة: منها مقولة التّعيين، فلفظ «ممرّات» نكرة؛ وهو ما يجعلها باهتة، فاقدة للملامح، منزوعة الصّوى والدّلائل. ومنها مقولة الشّكل النّحوي؛ فالتّركيب النّعتي «ممرّات سرّية»، لا يرفع اللّبس ولا يزحزح الشّبهة بقدر ما يُدخل على القراءة الارتباك، ويعمّر رأس القارئ بمزيد من الأسئلة؛ إذ إنّ السّرّي هو الخفيّ المحجّب المتلفّع بالضّباب، والمنذور لعوالم الظّلام. وهذه الظّلمة تجرّنا إلى الحديث عن باطن الذّات، والالتفات إلى النّفس العميقة لاستقراء مخبّآتها، وترجمة أحوالها، وتسريب ألوانها في الملفوظ الشّعري.
الشاعرات التونسيات يقرعن الطبول ويحركن العتاد المنسي
وبيَّن «راشدي»: مثل هذا الحضور الجسدي في قصائد الشّواعر التّونسيّات نستجليه أيضا بقوّةٍ في الأعمال الإبداعيّة للشّاعرة هدى الدغّاري (ما يجعل الحبّ ساقًا على ساقٍ/ سبّابتي ترسل نيرانًا خفيّة)، وهو يُنبئ عن حضوره بهيئاتٍ وصورٍ مختلفة. لكنّ الجسد في قصائد الشّاعرة المذكورة أو سواها (كوثر السّماوي: كالكوثر أو هو أقرب/ آمال موسى: أنثى الماء) يتشكّل في البنية اللّسانية للخطاب ونظام الدوالّ باعتباره تهيّجًا شبقيّا مُفرطًا في تصويت رغائبه، وسيلًا أيروتيكيّا مُسربلًا وجوده وإقامته في العالم بشهوة أنثويّة صارخةٍ في وجه السّجون والمراتيج والمغاليق، فاتحةٍ طريق الحضور الرّغبويّ بعيدًا عن متاريس القمع وعقابيل اللّجم، إيذانًا بعصر جديدٍ يقرع «ديونزيوس» طبوله، ويحرّك عتاده المنسيّ، ويهيّئ له لغةً مارقةً، متنطّعةً، تهذي خارج الأطر الّتي يحرسها العقل، فتظهر في بنية الخطاب بقعًا سوداء هي مسكن الممنوعات، وإطلالة المحظورات، ورافعة المكبوتات الّتي دُفع بها نحو «المصحّات والسّجون».