د. حمزة السالم
الإطلاق يدل على الشمول والتعميم. فقولك: مطلق اللفظ أي عمومه. فجعلُ الثمنية مطلقة، يجعلها تتلبس كل شيء اتخذه الناس ثمنًا لهم، كالحيوانات وكالذهب والفضة قديمًا، وكالعملات اليوم.
وأما الثمنية الغالبة أو غلبة الثمنية فهو وصف أطلقه القدماء على الذهب والفضة. فقد كان الناس قديمًا يطلبون الذهب والفضة من أجل الزينة، ومن أجل الاستخدام في الأواني والسلاح ومن أجل استخدامهما كأثمان. ولكن استخدامهما كأثمان كان هو الأمر الغالب عليهما، حتى ولو كانا في صورة زينة أو طبق أو مقبض سيف. فقد كانت تستخدم أثمانًا بوزنهما، فالدينار والدرهم والمثقال، ما هي إلا وحدات قياس الوزن.
ولذا فقد غلب على الذهب والفضة قديمًا استخدامهما كثمن لا كسلعة ولا كقنية. وهذه حالة لا تتوافر ولا توجد في شيء آخر أو سلعة أخرى، فعلقوا علة الحكم بها، وقصروا العلة عليها فلا يقاس عليها شيء لعدم وجود شيء يستخدم غالبًا كثمن، بدلاً من استخدام أصله، كالقمح مثلاً أو النحاس.
إذًا فالعلة عند الفقهاء السابقين، هي الثمنية الغالبة، وهي علة لا تتعدى إلى أي شيء آخر لاستحالة وجود شيء آخر يغلب استخدامه ثمنًا بدلاً من استخدام جوهره. فالفلوس القديمة مثلاً، كانت من حديد ونحاس ونيكل وكانت أثمانًا، أيضًا قد ازدهرت في كثير من العقود في الممالك والإمارات. ولكن استخدام أصلها المعدني كأثمان لم يكن هو الغالب عليها، بل كان الغالب عليها استخدامها في صناعاتها المتعلقة بها. ولهذا -وعلى المشهور الغالب من الفقهاء- لم تأخذ هذه الفلوس حكم الذهب والفضة في جريان الربا فيها وفي زكاتها.
فهذا معنى الثمنية الغالبة. وحتى اليوم لم يأت شيء كالذهب والفضة في غلبة صفة الثمنية عليه، فالثمنية في نقودنا اليوم هي أصل النقود وجوهرها، ومن دون الثمنية تكون عدمًا صرفًا، لا مجرد صفة غالبة عليه كالذهب والفضة.
وأما الثمنية المطلقة، وهي العلة المعتمدة اليوم والتي بها قاسوا العملات النقدية على الذهب والفضة، فهي تعني أن كل ما استخدم ثمنًا فهو ثمن تلحق أحكامه بأحكام الذهب والفضة.
والشاهد، أن الثمنية التي نصَّ عليها كثير من جماهير السلف من العلماء وهي المعتمدة والمشهورة في المذهب الشافعي والمالكي، هي الثمنية الغالبة، لا المطلقة. وهي علة لا تتعدى إلى غيرها أي لا يقاس عليها شيء آخر. ويُعَبر أحيانًا عن العلة القاصرة هذه بقولهم «وعلة الربا في الذهب والفضة هي كونهما ذهب وفضة». ولا أعلم أن أحدًا من الفقهاء قبل العصر الحديث، نص نصًا على الثمنية المطلقة، لأن بطلانها كان محتملاً آنذاك، فها هي قد بطلت اليوم، فلم تعد أثمانًا.
والتعليل القاصر على الشيء المنصوص عليه، ليس خاصًا بالذهب والفضة، بل إن كثيرًا من أحكام المعاملات معللة بعلة قاصرة. فعلة تحريم الحرير على الرجال هي كونه حريرًا، فلا يقاس عليه الحرير الصناعي مثلاً. وعلة الرق في الرقيق هي كونه رقيقًا، فلا يقاس الخدم على الرقيق فيأخذ الخدم اليوم أحكام الرق.
وقصر العلة على المنصوص عليه في النص التشريعي يكون بسبب عدم استطاعة أهل القياس استنباط علة قياسية منضبطة للمنصوص عليه كعلة الربا في الذهب وفي الرقيق وفي حرمة الحرير على الرجال، وكغير ذلك كثير، والله أعلم.