الثقافية - محمد المرزوقي:
ودع المشهد الثقافي، مساء أمس الأديب عبد الله بن محمد الشهيل - رحمه الله - بعد مسيرة حافلة بالعطاء الثقافي والأدبي، ورحلة عامرة بالمحطات الإدارية المختلفة التي تأتي إدارة المؤسسة الثقافية في مقدمتها، ما جعل من الشهيل واحدا من الأسماء الثقافية البارزة في مشهدنا المحلي، والعربي أيضاً من خلال مشاركاته الثقافية في العديد من اللقاءات والمؤتمرات الثقافية والأدبية، حيث أصدر سيرته الذاتية في كتاب بعنوان : (محطات عمر) في 622 صفحة من الحجم الكبير، تضمن سيرته بجميع المراحل العمرية الطفولة والشباب.. والكهولة، إذ اشتمل الكتاب على ثلاثة أقسام.. قسم البدايات عن العائلة والولادة والنشأة والتعليم، فيما جاء القسم الثاني عن الدراسة في لبنان ومصر والعراق وإنجلترا، والقسم الثالث يتصل بالمقابلات والاتصالات وبيان بعض المواقف والآراء التي أبداها المؤلف حول عديد من الموضوعات والمناشط المختلفة، إضافة إلى ما تضمنه الكتاب لمجموعة من الصور النادرة في عدد من المناسبات داخل المملكة وخارجها.
وقد ولد عبد الله الشهيل في مكة المكرمة عام 1358هـ ودرس السنة الأولى من الابتدائية بمكة وأتمها في بغداد، ثم درس المتوسطة في لبنان ودبلوم العلوم التجارية والثانوية وأعاد السنة النهائية منها في الرياض بعد معادلتها عام 1961م، حيث حصل عام 1385هـ على البكالوريوس بالتاريخ من كلية الآداب بجامعة الرياض، ثم الماجستير في التاريخ الحديث من جامعة الإسكندرية 1980م ثم عمل في وزارة الشؤون البلدية والقروية ثم انتقل للرئاسة العامة لرعاية الشباب بطلب من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد - رحمه الله - مستشاراً ثقافياً بمكتب سموه ثم مديراً عاماً للأندية الأدبية ، وقد نشر خلال هذه المسيرة نشر كثيراً من الدراسات وكتب في الصحف والمجلات المحلية والعربية.
يقول الشهيل عن تدوينه لمحطات هذه الرحلة في حياته، التي دونها في كتاب سيرته الذاتية : لا أظن أن السير الذاتية - عموماً - مفيدة، وإن اختلفت غنى وأهمية، خاصة إذا التزمت الصدقية والصراحة وامتازت بالوضوح والرؤية الواعية وراعت المشاعر وما تحمله المتغيرات حتى تترك أثر توعويا سواء صيغت بعمل إبداعي روائي مثلاً أو بشكل مباشر أو جزئي كالمذكرات!
وعن الفقيد تحدث الدكتور عبد الله بن صالح الوشمي رئيس النادي الأدبي الثقافي بالرياض سابقا، الأمين العام لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز لخدمة اللغة العربية قائلا : في آخر اجتماع لرؤساء الأندية الأدبية الذي انعقد في القصيم بعد وفاة والدي د. صالح - رحمه الله - وتفضل رؤساء الأندية بزيارة منزل صديقهم لإحياء ذكراه، وتمتين التواصل مع أسرته، والوفاء لمواقف الخير بينهم؛ رأيته لأول مرة .
وعندما انعقد اللقاء الأول للنادي الأدبي بالرياض بعد إعادة تشكيل مجلس إدارته، وكنت نائبا لرئيسه د. سعد البازعي؛ رأيته المرة الثانية ، ثم تنوعت اللقاءات، وسعدت بصحبته في بعض اللجان، والأسفار، والمناقشات العلمية، وعلى رأسها الفعاليات التي تنعقد في النادي الأدبي بالرياض.
وأضاف الوشمي : كان - رحمه الله وغفر له - يأتي بهدوئه ورزانته وقامته الفارعة وأناقته اللافتة ليناقش في القضايا المطروحة، وغالبا تجد لديه تأريخاً وثيقاً لتسلسل الأحداث ونموها، ولئن كان ذا باع واسع في التاريخ السياسي والصلات مع بعض الدول وخاصة لبنان ومصر، فإنه ـ غالباً ـ يبزّ غيره في توصيف التحولات الثقافية والاجتماعية في عدد من الأمور الثقافية، وخاصة عندما يتصدى لتأريخ المرحلة التي أسهم في صناعتها وبنائها، فلا تسأل عن الطيبة والعاطفة الجياشة التي ينطوي عليها قلبه، وإن وقف على ملامح وجهه الأنيق جبل من الشموخ والتماسك، فاللهم ارحم فقيد الوطن والثقافة عبد الله الشهيل.
أما الكاتب بـ «المجلة الثقافية» بصحيفة (الجزيرة) الزميل محمد القشعمي، فقد وصف فقيد المشهد الثقافي بمناسبة تكريمه في نادي الرياض الأدبي، بأن معرفته بالشهيل تمتد إلى ما قبل أكثر من ثلاثة عقود، حيث سافر معه مرتين الأولى منذ 30 عاماً إلى جامعة الإمارات العربية بمدينة العين لحضور ندوة عن الهوية الوطنية بتنظيم من مكتب التربية العربي لدول الخليج، حيث قال عنه القشعمي حلال تلك الرحلة : لهذا أعتقد أنني أعرف الشهيل عن قرب لكوني كنت أعمل في إدارة الشؤون الثقافية وهو مدير الأندية الأدبية بالرئاسة، فمن يرى الشهيل لأول مرة يظن أنه متعال ومتكبر ولكنه بالعكس بسيط وسهل لكنه معتد برأيه لا يتنازل عنه بسهولة.
وفي مقال للشهيل في صحيفة (الجزيرة) عن الأندية الأدبية، بعنوان : (الأندية الأدبية.. ما كان.. وما هو كائن.. والمطلوب) كتب فيه:
على خلاف ما أريد للأندية الأدبية في أن تكون بمنأى عن : البيروقراطيات والمحسوبيات حتى لا تعرقل مساراتها.. وتعطل بالتعقيد كثيراً من فعالياتها.. وطيلة المدة التي امتدت من تأسيسها.. حتى انتقالها لوزارة الإعلام : لم يحاول المسؤولون عنها : إخراجها مما حدد لها بنظامها العام.. وهو : دائرة المجتمع المدني لكي لا تضيق مساحة تحركاتها.. وتأخذ الأبعاد الكافية دون مراقبة مباشرة.. وإنما : تنسيقية تقييمية.. وذلك بحسب : كم وكيف ما يقدمه : كل نادٍ.. وحاجاته لا أكثر.. وهذا ما كان سارياً في الأندية قبل تغيير مرجعيتها.
وما هو كائن : أن أكثر الذين يشغلون عضوية مجالس إدارات الأندية الأدبية من الذين ليسوا بعيدين كثيراً عن مرحلة الشباب.. وجُلهم إن لم يكن كلهم من الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية.. وفيهم : مبدعون.. ومثقفون مهمون.. وكُتاب مرموقون.. وبالحماس والنشاط يمتازون.. ولكن يبدو أن بعضهم تنقصهم الخبرة الإدارية.. والبعض : إما لم يقرؤوا النظام.. وإما قرؤوه.. ولكنهم لم يفهموه.. ومنهم بخاصة في السنوات الأربع التي جرى أثناءها : تعيين أعضاء مجالس إدارة للأندية الأدبية ببداية فترة انتقالها للإعلام بينهم : من لا علاقة لهم بالأدب إلا بالدراسة ولكنها كانت بعيدة عن اهتماماتهم وهواياتهم.. وعهدهم بها طواه النسيان.. لأنهم انشغلوا بالمفيد مادياً أكثر.
أما عن (فجيعة الموت والصبر والإيمان به) فكتب في مقالة له:
الحياة مهما كثرت الهموم والأحزان والمصائب والمتاعب والمظالم فيها وإن جارت وضاقت تظل جميلة، ومتعها كثيرة وحتى الذين ضاقوا بها كرهين المحبسين:
تعب كلها الحياة فما
أعجب إلا من راغب بازدياد
وقول زهير :
سئمت تكاليف الحياة زمن يعش
ثمانين حولاً لا أبالك يسأم؟!
فهما يعبران عن حالة رأيا بيانها وإن اختلفت معاناة المعري عن ابن أبي سلمى.. تجمعهما : حالة ولكنهما على ما يبدو لم يكونا عازمين على التخلص من الحياة التي هي نعمة إلهية لا بد من وعي ماهيتها وإدراك كنهها مع أنها وقتية وليست بأكثر من ممر نحو مقر، وأن دوام الحال في غضونها محال : تظل عامرة بالتتابع والتتالي والتوالي والتعاقب.. والتعددية والتنوع. والإحلال بإيجاد البديل بلحظة الاندثار.. وتبعاً لذلك تغلق كافة طرق الفراغ!.
ومن سننه سبحانه بالحياة تسخينها في المتقابلات.. والثنائيات اللفظية والمتباعدة جداً معانيها بالتناقضات والمتضادات فحفلت بالحركة والحيوية بالوفاق والخلاف.. والحب والبغض.. والخير والشر والاستقامة والانحراف والجمال والقبح.. والحزن والفرح!
إن الحياة شاء الله أن تكون حلية لكافة مخلوقاته سواء المفكرة أو الغريزية.. أو الجامدة بمختلف إيقاعاتها وتقلباتها والطمأنينة أثناءها : القبول بالقضاء والقدر والقناعة.. وقد أصاب (أبو البقاء الرندي بمطلع قصيدته النونية الشهيرة :
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان!!!