د.علي القرني
أحيانا وفي زخم الجدليات الكبرى لبعض التخصصات سواء منها الجدليات النظرية أو الجدليات التطبيقية، نعود إلى الأسئلة الأساسية في التخصصات. والعودة إلى السؤال الأساسي يعيد لنا التفكير العميق - وليس السطحي كما يتبادر إلى الأذهان - في مجال الموضع ويعيدنا مرة أخرى للتفكير في الأبجديات التي تستفيق داخلنا عند تشابك المسارات وضبابية الرؤية. ومن هنا، فإنني أعود إلى السؤال الأساسي في الإعلام.
والسؤال الأساسي في الإعلام هو هل الإعلام وسيلة أم غاية؟
هل الإعلام هو غاية في أن تمتلك الدولة أيا كانت هذه الدولة وسائل إعلام لها؟ مثلما تمتلك علما ونشيدا وطنيا، وتمتلك تاريخا في المكان وجغرافيا على الأرض. هل الوسيلة الإعلامية أيا كانت صحيفة أو إذاعة أو محطة تلفزيون هي مجرد غاية تحاول أن تمتلكها الدول، أم أن هناك عوامل أخرى خارج نطاق الامتلاك لمجرد الامتلاك والتباهي؟
وفي نظري وربما في نظر غيري أن الإعلام لا يجب أن يكون غاية بذاته، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى أن يكون وسيلة فقط لتحقيق غايات كبرى في المجتمع. وكثير من المؤسسات الإعلامية في كثير من البلدان تزعم أن وجودها هو وسيلة نحو غايات مجتمعية، ولكن عندما نتصفح وظائف الإعلام لا نجد سوى وظائف تقليدية للإعلام هي الإخبار والترفيه والتثقيف والتوعية وما شاكلها. ورغم أهمية مثل هذه الوظائف، ولكنها في هذا العصر تظل دون التوقعات والطموحات الوطنية لأي مجتمع.
هناك أهداف وغايات كبرى في المجتمع لا تظهر أمام الناس ببساطة، أو لا يمكن استيعابها بسهولة، أو لا يمكن رؤيتها بشكل مباشر، وهذه الغايات هي التي يقف أحيانا أمامها الإعلام عاجزا عن الاستيعاب، وعن التمثل بها، وعن إدماجها في وظائفه الأساسية. وهنا يتأخر الإعلام عن الوصول إلى تلك الأهداف والغايات، ويظل أسيرا لأهداف ربما تكون هامشية في المكان والزمان. ولو افترضنا أن الإعلام يعلم ويدرك تلك الأهداف الكبرى في المجتمع، فهو يتعامل معها بمعالجات شكلية أو سطحية أو هامشية، ولهذا ينتكس الإعلام في مواجهة تحقيق مثل تلك الأهداف والغايات المجتمعية.
الإعلام في هذا العصر أصبح عملية معقدة جدا، وليس من السهولة تفكيك هذا التشابك بينه وبين باقي المؤسسات والوظائف في المجتمع، وخاصة مع تداخل شبكات الإعلام الاجتماعي، وتقاطعها مع وسائل الإعلام التقليدية، وتحديدا تعارضها في كثير من الأحيان مع أهداف ووظائف المجتمع. وهذا ما يجعل الصعوبة تزداد والتعقديات تتنامى في ظل مستجدات الإعلام والاتصال. ومما يزيد من عمق الجروح الإعلامية أن محتويات الإعلام الجديد بشتى أشكاله يتعارض في بعض أو كثير من الأحيان مع أهداف وغايات المجتمع، وهذا ما يفاقم من خسارة الإعلام في تحقيق تلك الغايات الكبرى في المجتمع.
وإذا عدنا إلى السؤال الأساسي: هل الإعلام غاية أم وسيلة، فإن الإعلام بكل تأكيد هو وسيلة نحو غايات كبرى في المجتمع. والسؤال المتولد من هذا السؤال هو كيف للإعلام أن يعرف أو يتعرف على تلك الأهداف الكبرى في المجتمع حتى يتمكن من العمل بموجبها؟ وهنا نحن لا نلوم الإعلام إلا جزئيا، ولكن يقع اللوم أحيانا على المؤسسات المجتمعية - سياسية، اقتصادية، ثقافية، واجتماعية - فهي التي لم تعمق تلك الأهداف لدى المؤسسات الإعلامية، ولم تتح للإعلام أن يستوعب تلك الأهداف، ولم تشركه في نقاشات تلك الأهداف، ولهذا يظل الإعلام يبحث عن نفسه دائما في رحلة متصلة لا تقف..