د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** حينما كان أستاذنا الراحل عبدالرحمن البطحي 1357-1427 هـ يطالَبُ بصورةٍ شخصيةٍ له يعتذر لعدم رغبته في الانفصال عن ظله، وفهمنا مراده «ربما» بغير ماشاء موقنين أنه لا يود انشغالَ مريديه بالظل «الصورة» عن الأصل « الشخص»، ثم وجدناه -غفر الله له- معنيًا بالتصوير، وكنا ظننا ألا صور له، وفي عدد نعيه بالمجلة الثقافية شهرَ وفاته لجأ الزميل المحرر إلى ملفه الرسمي فحصل على صورة من بطاقة هُويته ودفع بها إلى رسامٍ موهوب كي يحاول مضاهاتها فصارت غلافَ العدد، واكتشفنا -لاحقًا- أن له العديدَ من الصور الثابتة والمتحركة، وأملُنا أن يظهر بعضُها في كتاب يوثق مسيرة أنموذجٍ بارز على الثقافة الشفاهية التي توشك أن تُدفنَ بموت أصحابها.
** الحديث هنا عن «الظل» بمعانيه المعرفية الشمولية لا استقصاءً بل استدلالًا على المسافات الفاصلة بينه وبين الضوء وفقًا لرؤية بعض الفلاسفة في أن «الظل العميق نتاج الضوء المكثف»، وهو ما يعني أن الظل نورٌ ولو بدا عَتَمة، وكانت له دلالته في بعض الأمم زمنًا قديمًا لم تغادره أمم أخرى اتكأت على نقد الظل لا الأصل، ولم يكن هذا إيحاءً بأهميته بل هروبًا من مسؤوليته ومساءلاته، وكذا يصنع الظل لمن يحبونه إذ يعفيهم من «مواجهة الواجهة» التي قد تتطلب ما لا يستطيعون الرضا به أو قبول اشتراطاته.
** يجيءُ الجميع من الظل ثم يفترقون ليعيش فئامٌ تحت الشمس ويموتوا بوهجها، ويغادر غيرهم الحياة كأنْ لم يعبروها، والمفارقة التي يصعب تفسيرها أن في «الشمسِيين» من يسكنون الظل بعد رحيلهم وينبعث من «الظِّليّين» من يفترشون أرائكهم، وسيتبع هذا استفهام: من الكاسبُ ولمن المكاسب ؟ ولن تكون الإجابة متيسرةً؛ إذ الحسابات مختلفة يتداخل فيها المعجَّل والمؤجَّل، والظِّلِّيون -في طبعهم- لا يعتنون بمثل هذه المسائل بمقدار ما يعنيهم التواؤمُ مع أنفسهم في صفاءٍ داخلي لا يعبأ به الشمسيون.
** الظل -في تقدير عائِشيه- هامشٌ بقيمة المتن، وظلمةٌ ببريق الضياء، غير أنه هلاميُّ اللون حيادي الطعم عديم الرائحة لدى الأكثرية الساكنة في النهار القائظ المشمس، ومن ينحاز إليه يراه كما سادة قمم «الأوليمبوس» حيث لا يَعدم خيالُهم أساطيرَ بائدةً تُرضي من يبرر بقاءها أو يدَّعي نقاءَها.
** لقانون الظل في عرف دارسي الرياضيات جدواه المكافئة لقانون «الجيب» في «حساب المثلثات» لكنه لا يحظى بانتشاره، وقد يلخص هذا معادلة الضوء والظل في قيمة توازيهما بحكم قوانين الحياة وأعراف الأحياء؛ فمن يأنس بالشمس لا يلتفت للظل، ومن يعشق الظل لا يطيق الأضواء، وبينهما مسافة ال» بين بين» التي يعيشها المترددون ومن تفرض عليهم أعباؤهم ألا يُحكموا اختياراتهم أو ربما ألا يُحسنوها.
** الظل امتداد لا ارتداد.