د. حمزة السالم
اعتبر القرآن القيمة كمنتهى الربا، ففي قوله تعالى {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}، والعدل يكون في القيمة لا في العدد والحجم والوزن. وأما السنة فقد جاءت بالعدد لا بالقيمة. والسنة جاءت بربا البيوع لا ربا القرض، وكل ما نزل قبلها في القرآن كان عن ربا القرض. فما ذكر القرآن ربا البيع، إلا في آخر البقرة، في نهايات أيام التشريع بعد أن بينت السنة وفصلت ربا البيع.
ولا أعرف أن تشريعاً غير التشريع الإسلامي قد جاء بهذا. فاعتبار العدد أو الوزن أو الحجم دون، اعتبار القيمة، أمر غير منطقي لا يقول به عاقل، ما لم يُوضع في حال تُبرر منطقية هذا الحكم. فقد جاءت الشريعة بتحريم البيع في ستة أصناف - من الأموال الادخارية- بجنسها، سواء أكان البيع حاضراً أو نسأ، فأوجبت التماثل في وسيلة قياس القيمة كعدد ووزن، دون التماثل في القيمة ذاتها.
فلم حرم الشارع ربا الفضل في البيوع وهي إما لا يتخيل وقوعه وإما ليس فيه مصلحة للناس؟
أجاب الفقهاء قديماً فقالوا إنه تحريم وسيلة، لكيلا يُحتال به للنسيئة.
وأقول، ولعل هناك جواباً من ثلاثة أوجه:
الأول من حيث احتمالية الحدوث: كصانع حلوى يحتاج لتمر قليل الجودة يلح للحلوى وليس عنده إلا تمر فاخر، لكنه لا يصلح لصناعة الحلوى. فيستبدل صاعاً من الفاخر بصاع مثله الأقل جودة، لتحقيق منفعة حاجته.
الثاني من وجه اللغة: فحيث إنه لا يمكن تصور وقوعه إلا في حالات نادرة، فأمر الرسول إذاً محمول على النهي عن تفاضل هذه الأموال، لا الأمر بتبادلها. مثاله: كفعل الأمر في قوله سبحانه {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فالأمر للوعيد لا للإلحاد به.
ثالثاً، من وجه الغايات والحكم:
فمن حِكَمِ منع ربا الفضل في بيع حاضر لمال ربوي بنفس جنسه، إذا كان من الأصناف الستة:
1- منعاً للغبن والمخادعة، فسعر السلعة الحقيقي إذا عرضت في السوق، قد يختلف عن سعرها التقايضي.
2- ومنعاً لدافع لتآمر أهل السوق على خلق سعر تقايضي وهمي، بالمزايدة على سلع أساسية.
3- كما أن فيه حكماً باعتبار العدد والوزن، لا القيمة، في تبايعات البيوع الآجلة، وفي هذا الفهم، دليل واضح للتفريق بين دين قضاء القرض بقيمته، وقضاء دين البيع بعدده وصورته لا بقيمته.
فتأخير السداد في دين البيع محسوب مخاطرته، وكذلك مخاطرات تغير الأسعار للسلع أو للذهب والفضة. كما أن مخاطرة إفلاس الخصم وموته وهلاك المال، كلها محسوبة ضمن الفائدة. فبأي حق يُطالب المُدين -في دين بيع- المُستدان بقيمة ماله لا بعددها، وهو قد حسب مخاطرة اختلاف قيمة العدد أو الوزن أو الحجم، على المستدين. لذا جاء ربا البيع باعتبار وسيلة القياس من عدد ووزن وحجم ونحوه، لا باعتبار القيمة.
وهذا بخلاف الظلم في القرض، فقد راعى الشارع سبحانه في القرآن كلا من جانب المكروب، وجانب المُقرض المحسن، فالله عدل يحب العدل. فامر المُقرض بالتنازل عن قيمة يستحقها، وهي الزمن أو حاجة الكرب الاستهلاكية عند المقترض، أو كلاهما، مقابل أجر الله وثوابه. كما أمر المُستقرض أن يرد المال للمحسن الذي أقرضه بقيمته، لا بعدده، فلا تجتمع على المُقرض المحسن خسارات ثلاث، خسارة قيمة الزمن وخسارة قيمة الحاجة الاستهلاكية عند المُستقرض وخسارة بعض قيمة رأس ماله.