د. خيرية السقاف
شهر وذوو السترات الصفراء يطلقون احتجاجهم في أرقى ساحات مدينة «النور»، و»الثقافة»،
ولم تستطع أن تمنع سيلهم هاتان المزيتان لفرنسا..
من هذه الزاوية فقط يمكننا أن نقارن بين ما يحدث في مجتمع الإنسان حين تضطره الحاجة، ويحاصره العجز، وبين من يغمر بغطاءٍ سميكٍ، ما ينمو، ويتفاعل، ويتوالد تحت هذا الغطاء حين يبدو للعالم أجمع بأن فرنسا على سبيل التحديد بهذا الحدث قد ظهر ما دون غطاء تقدمها، وديمقراطيتها، وثقافتها، وعطورها، وأناقتها من أوبئة مختبئة، ومتراكمة..
المرأة التي صرخت في ساحة «الشانزلزيه» وأزاحت سترتها الصفراء علامة الاحتجاج باكية مندفعة، متوسلة، غاضبة، حزينة كانت تقول: «نحن منكم، نحن أهلكم، نحن نحبكم ولا نكرهكم، فلماذا تفعلون بنا ذلك، نحن لا نريد إلا أن نعيش بلا ضغوط»، ثم طالبت بأن تبقى فرنسا لتموت هي دون أن تتدمر باريس، وختمت «لا ترشقونا»، وتوجهت لمجموعتها «لا تتراشقوا»، بكاؤها مريرٌ للغاية، وصرختها قبل أن تكون «فرنسية» لا يسمعها سوى بيتها، هي صرخة إنسانية دوَّت في أسماع العالم، لكن الهيئات المضطلعة بشؤون الإنسان لم نسمع لها صوتاً، والمنظمات الخاصة بالطفولة، وبالحقوق، وبالعدالة، وبالشعوب كأن لا أذن لها، بينما جميعها تفتح كل بوق لها إن حدث أمر ولو يسيراً في الدول العربية لتصرخ، بل لتدس نفسها في تفاصيل قد لا تعنيها، وليست من مهامها..
الشاهد في هذه الحركة القائمة في فرنسا، والمتجهة لجيرانها أنها حركة منظمة، مدروسة، معد لها، مصنوعة لها السُّتر ذات اللون الأصفر، يشارك فيها جماعات ليست قليلة العدد، يوحّدها هدف واحد، تفوق كتيبات عسكرية، تحرق، تحطم، تضارب، وتضرب، تصر، وتتمادى، ومع ذلك لم توسم بالإرهاب، ولن توصم به فرنسا، ولن يدّعي أحد بأنها تحمي المتمردين، وتبعث الشغب، مهما كان غطاء الحركة وأسبابها، كما لن تجتمع بعثات دولية لتتوجه إلى فرنسا لحل الأزمة، ذلك لأنهم يتعاملون مع بعضهم على أن هذا شأن داخلي يخص فرنسا، لأنها دولة أوروبية في قائمة دول الصف الأول بزعمهم، لذا من يموت في ساحات فرنسا، ويسجن، ويتعرّض لقسوة الأمن ففي بلده، وشأنه مع دولته، كما أن صنّاع، ومؤسسي هذه الجموع المتمردة، ربما غير مارقين في تجاوزهم في نظر من يتدخل في شؤون العرب المسلمين بحجة الإنسانية، أو الهيمنة، فيسقط عليهم وصاية «الإنسانية»..
ما يعنينا في هذا المشهد هو بعض من أوجه المقارنة، وإن كانت الأسباب تختلف، لكن النتائج تدميرية للمشهد الحضاري، والأمني، والسلمي، والعدلي..
على أننا نتفق جميعنا على الرأفة، والعدل للفئات المسحوقة فاقة، والمطحونة عجزاً عن مواجهة متطلبات الحياة، إذ يحق لهم أن ينالوا من ديمقراطية بلادهم، وثقافتها، والنور الذي عمَّ حضارتها كما توسم به أن ينالها شيء من هذا لتحيا في طمأنينة، وسلام، تصان به النفوس، والمقدرات..