عماد عباس العامري
قرأت في عددكم 16865 الصادر يوم السبت الموافق 23-3-1440هـ مقال أ.د راشد عبدالكريم، مناقشًا مقال أ.د فوزية البكر حول الفلسفة وتدريسها، وقد حمل كلا المقالين -كما يبدو- وجهات نظر متباينة حول الموضوع، ومن الجميل أن تتيح صحيفتكم -كما عودتنا- طرح مثل هذه الموضوعات برغم ما تحمله من مناطق شائكة، إلا أنها تبقى ثرية ومثيرة للقارئ الكريم على اختلاف انتماءاته ومشاربه العلمية والثقافية، وذلك للنَّفَسِ الفكري الذي تتضمنه مثل هذه الأطروحات.
ما شدني في المقالين أنهما يتفقان بالرغم من الاختلاف الظاهر عليهما الذي كان سببه عبارة تُنسب إلى أفلاطون «إذا حُرِّرت المصطلحات؛ ارتفع نصف النزاع» وفي ذات السياق يقول فولتير: «إنْ كنت ترغب في التحاور معي؛ عرّف مصطلحاتك» وهذا يتضح في طلب د. العبد الكريم تعريفًا للفلسفة، وأيها نقصد، أهي تأريخ، أم أقوال فلاسفة...؟! لتستمر الاستفهامات والتعجبات حتى الانتهاء إلى أن التفكير ومهاراته يُدرَّس في كل بلاد الدنيا في إشارة إلى أن الفلسفة بالية في حضرة هذا العصر مقابل إشارة د. البكر أن الفلسفة احتياج أكثر من أي وقت مضى.
سأنطلق في تعقيبي هذا من مفهوم الفلسفة بمعناها العام الشامل الأشهر وهو حب الحكمة دون تضييق أو «تزوية» وتمذْهُب لاتجاه فلسفي دون آخر، وكم رجوت من كاتبي المقالين أن يكونا على وفاق واتفاق حول هذا المصطلح وغيره من المصطلحات مثل (التفكير- الذكاء- الفلسفة- التدريس- الحقيقة) وبلمحة سريعة على هذه المصطلحات فإن التفكير بشكل أو بآخر جزء هام من الفلسفة، وضرورة يمارسها كل فيلسوف لتوليد الأسئلة أو الإجابة عليها، والذكاء على إطلاقه أُفضِّل تحييده في هذه المقال لاعتبارات عدة، لننتقل إلى التدريس من حيث الكيفية التي تتم بها تدريس الفلسفة سواءً كان ذلك بشكل مدمج أو بمنهج مستقل أو كنشاط لا صفي، أما الحقيقة فهي ليست مجالاً للفلسفة إلا لما بعدها أو قبلها، فإذا كان العلم يدور حول ما نعرفه، فإن الفلسفة تدور حول ما لا نعرفه كما سيتضح ذلك في خواتيم هذه المقالة، فما قصدته في هذه الفقرة وما سبقها هو تحديد نقطة الانطلاق، ولفت الانتباه إلى أن كثيرًا من الإشكالات الحوارية والمفاهيمية تعود إلى مثل ذلك التفاوت في مدلولات المصطلحات وخصوصًا في مجال العلوم الإنسانية.
ما يهمني في هذا التعقيب -كباحث في فلسفة التربية- هو الفلسفة بمعناها العام من حيث إن تدريسها أو التعاطي معها كونه ترفًا أم حاجة في ظل الوقت الراهن أمام هذه الزخم الهائل والمهول من المعلومات والمعارف المتقاذفة إلى حواسنا مع كل ساعة حال يقظتنا بوسائل شتى تقتحم المدارك والأذهان بلا استئذان، ما جعل معظم الكتاب والمفكرين يؤذنون بأننا نتهادى إلى دخول عصر جديد هو «عصر الحكمة» والحكمة -كما أسلفت- تترادف والفلسفة، فلماذا الحكمة (الفلسفة) في هذا الوقت؟!
الفلسفة اليوم تمنح يقظة ذهنية إزاء قضايا الساعة وما يحيطها من إشكالات ولّدت قلقًا معرفيًّا، كما أن الفلسفة تُكسب شيئًا من التمحيص، والتدقيق، والفحص لما يرد إلى إدراكاتنا وأذهاننا من معارف، وأخبار، وروايات من هنا وهناك -بإرادتنا أو بدونها- إضافة إلى أن دراسة الفلسفة وتدريسها تضفي لونًا من التسامح الفكري مع النفس، والوجود، والآخر، في ظل ذوبان الحدود الثقافية والجغرافية بين المجتمعات، وهذا هو مكمن سر اهتمام بعض الدول التي تُضمِّن مناهجها الفلسفة وتدريسها.
وفي مسألة أن العلم والتفكير هما فقط المخولان للوصول إلى الحقيقة أو الأفكار الصحيحة، فإن الفلسفة هي مرحلة سابقة للعلم، ومرحلة تالية للحقيقة إلى ما بعد الحقيقة، فالفلسفة لها فائدتان -على حد تعبير- برتراند راسل، فالأولى أنها تغذي التأمل في الأشياء التي لم تخضع بعد للمعرفة العلمية، والثانية أنها تُوسع نظرتنا الخيالية تجاه العالم، فهذا ديمقريطس وضع افتراضَ أن المادة تتألف من ذرات صغيرة، وبعد 2000 عام أثبت العلم هذا الافتراض، والأمر تكرر مع أريستاخوس ليثبت ما توصل إليه وبمنهج علمي كوبرنيكوس، وفي حالة آنشتاين فإنه بدأ اهتمامه بالفلسفة مبكرًا عن طريق مكتبة عمه، حتى قال عن كُتب أرسطو بأنها أول الألغاز التي واجهته في حياته إلى أن مرَّ بكتاب «العقل المحض» لإيمانويل كانط، وبعد ذلك وجد في أفكار سبينوزا شيئًا حرر قيوده نحو المنهج العلمي ليُسطِّره التاريخ مع أعظم العلماء على وجه البسيطة، إضافة إلى ذلك الارتباط العجيب بين معظم الفلاسفة وعلم الرياضيات وبقية العلوم وذلك يتضح لدى فلاسفة اليونان، والإسلام، والغرب حيث برعوا في فروع مجموعة من العلوم مع براعتهم في التفلسف.
ولا أعتقد أن الفلسفة تنتهي إلى الشك كما أشار إلى ذلك د. العبد الكريم، فذلك حكم على فرع من التصور الكلي، فبنظرة عامة على مبحث الإبستمولوجيا -أحد مباحث الفلسفة- نجد أن الفلاسفة تفاوتوا فيما انتهت بهم فلسفتهم، فهناك من انتهى إلى شك مطلق (مذهبي)، ومنهم من انتهى إلى شك منهجي (علمي)، ومنهم من وصل إلى الدوجماطيقية، وفئة رست مراكبهم على شطآن النسبية وذلك في فرع إمكان المعرفة، وكما أن الاستدلال بدول عربية تُدرس الفلسفة تنتشر لديهم الخرافات من كهانة وسحر، ماذا عن دول تدرس الفلسفة نجد لديهم مظاهر التقدم الحضاري والعلمي وهو استدلال في كلا الحالتين لا أميل له فنحن في حرم علوم زئبقية المتغيرات. وإذا كان وراء كل دكتاتورية فسلفة، فإن وراء كل ديموقراطية أو سِلْمٍ -أيضًا- فلسفة، وقد حاول فلاسفة كُثُر أن يوجدوا هذا النموذج الطوبائي والفاضل من خلال كتبهم وآرائهم تنظيمًا وهندسة اجتماعية إلا أن الطبيعة البشرية تأبى ذلك، ولم يسعوا بالرغم من ذلك إلى النقيض.
جانب مهم لا بد من الإشارة إليه وهو أن العلم وأنواع التفكير الذي يتم في حجرات المدراس يركز في أغلبه على المادة العلمية وفهمها، وليس فهم الذات والعلاقات، فهو علمٌ وتفكيرٌ يتعامل مع الفرد ككائن إدراكي، لا كائن شعوري، ما صنع فجوة أحس بها الوسط العالمي بين التقدم العلمي والمعرفي وبين الرقي الأخلاقي والقيمي، ومن هنا جاءت الحاجة إلى الفلسفة.
كتاب Philosophy for Kids لكاتبه David A. White المنشور عام 2001م تمَّ إعداده لتدريس الفلسفة من عمر 10 سنوات فما فوق اعتمادًا على ثمانية معايير حكومية للأساس المشترك في آداب اللغة الإنجليزية، وتعلم القراءة والكتابة لإرساء الجاهزية في الجامعة، والحياة المهنية لطلبة مراحل (K-12) في إطار نظام وفلسفة التعليم الأمريكي، وهذا يؤكد أن تدريس الفلسفة لا يتم عشوائيًّا، كما أنه تدريس لا يُقحم الفلسفة بكل حيثياتها، وإنما وفق معايير معدة سلفًا ليُنتقى من الفلسفة ما يتفق مع هذه المعايير مما لا يتعارض مع ثقافة المجتمع، والجدير ذكره أن الكتاب يطرح 40 سؤالاً صنفها الكاتب بين قيمية، ومعرفية، وواقعية، والتفكير الناقد، وقد وجد White أن تفاعل طلبة التعليم العام أكثر حماسًا وإثارة من طلبة الجامعات -على حد تعبيره- كونه درس الفلسفة في أروقة الكليات والجامعات إلا أنه وجد فيها طلبة خاملين ولا مبالين في تفاعلهم مع الفلسفة، وهو يفسر ذلك بأن المرحلة السنية المعد لهم الكتاب؛ محبون للتفكير في هذه الأسئلة كي يعبروا عن أفكارهم، ويناقشوا بوجهات نظرهم بهمة عالية وتبصّر، ويقول White: «القراءة في الأفكار الفلسفية مصدر هام للمعلومات».