عبد الله الماجد
وحينها لم تكن منتجة للتقنيات الفنية الأدبية الحديثة، بقدر ما كانت بمنزلة صدى يتلقي الصوت بوعي وحذر، أصبحت فيما بعد منتجاً مشاركاً، حينما تم وضع هذه الأساليب التقنية الحديثة، أدوات مُعبرة عن التجارب المحلية، فأصبح وهجها الإنساني مرئياً ومسموعاً، وهكذا كان المُعبِّر المحلي في شكله الحداثي وصدقه الفني؛ مُعبِرًا إنسانياً شاملاً, من الممكن ملاحظته بوضوح, في هذه المجموعات القصصية.
القصة الأولى في هذه المجموعة «دامسة» التي اختيرت عنواناً للمجموعة، هي نموذج لما قيل آنفاً. الحدث فيها في غاية البساطة والعفوية الإنسانية، يحدث كثيراً في قصص الحب الإنساني الكلاسيكي، شخص يتعلق قلبه بحب فتاة اسمها «دامسة» ويحلم بأن يتزوجها، ولكن يأتي لها عريس آخر غيره. الملاحظ أن القصة لم تجعل لهذا المحب اسماً، مما يتيح للمعالجة الفنية في القصة، أن تجعل المعني ينطبق على أشخاص وليس شخصاً بعينه. وفي الوقت نفسه، فإن تسمية «دامسة» باسمها يجعلها رمزًا بعينه، يتماهى ما بين الإنساني والمكاني، وتتآزر مجموعة من البني الفنية، في معالجة الحدث في القصة، ما بين الحكايات التي تُخلّق وتُبدع الأساطير المحلية، وفنيات السرد التي تثريها لغة متوازنة؛ بين المعني والمبني، الموضوع فيها ليس مباشرة تقريرية، وإنما يأتي في سياق لغوي واقعي مُوحٍ.
عنز الجبل الخرافية، لم يرها أحد، لكنها موجودة في الذاكرة، وهي التي تحفظ اسم «دامسة»، هي الصدى الذي يُردد الاسم، الذي يشارف أن يُنتزع من القرية ومن قلبه هو؛ كما لو أن شجرة التوت، التي تتمايس بثمارها الزاهية، قد انتزعت من قريته, لاحظ أنه لم يُسم القرية. ما بين «دامسة» الحبيبة، والقرية الحبيبة كذلك، عناق وفراق, وهو لا يتصور أحدهما دون الآخر: (تصور كيف يمكن أن تكون دامسة من دون القرية، منتصبة دون انحناء). ويظل هو يُناطح قمة الجبل، دون أن يبلغها, إنه يتوقف عند منتصف المسافة, دليل على أن حلمه لم يبلغ مُنتهاه, واسم «دامسة» ظل صدى تطلقه العنز الجبلية، التي أصبحت في الذاكرة من بنات الجن، فهي قد فقدت - هي الأخرى - حبيبها الأنسي، لابد أن نلاحظ بعض الأساليب الفنية، التي كانت حاضرة في القصة:
الاستباق Prolepsis: بالإعلان عن حضور شخصية الأب، الذي تم التمهيد له بشكل تدريجي عبر إشارات تدل عليه: لم ينم كما ينبغي، صوت الأنفاس، الشخير المتتالي، صوت انسكاب الماء، ارتطام قدم بالتنكة التي أفرغت ما في جوفها، كل هذه الإشارات تأتي عبر تدفق «تيار الوعي». ثم تظهر شخصية الأب في الحدث: الأم تُعد القهوة للأب بعد صلاة الفجر. ها هي ملامحه؛ الوجه الصلب، يشرب فنجان القهوة. الاستباق هنا يمهد بالإعلان عن الحدث الرئيس والترقب: (التفت الابن والأم إلى الوجه الصلب): - (أقول.. دامسة توفقت، وجالها عريس من أبها)، يجب أن نلاحظ، أن خلق شخصية الأب في الحدث، لها ما يبررها، فهي القادرة الوحيدة، على الإعلان عن مثل هذا الحدث (دامسة جالها عريس). الاستباق، على غير المألوف والمتوقع، جاء قبل نهاية القصة. فالمألوف أن يأتي في بداية سرد الراوي مهيئاً لإعلان الحدث الرئيس، لكنه جاء متوافقاً مع الحدث، الذي بدأ والنهار يتثاءب معلناً قدوم الليل، والتمهيد الاستباقي للحدث كان بعد الفجر.
* * *
قصة «امغريبة» هي من القصص الممتعة في هذه المجموعة «دامسة», امتازت بكل أدوات الفن القصصي, وبلغتها التي تنساب في عذوبة غير مُتكلفة وصادقة, والمدهش أن الراوي Narrator في افتتاحية القصة؛ وهو يضعنا في هيئة «المرى له» Narratee، قد تنبه إلى خطورة مطارحة الفن، واصطياد الفكرة، ومخايلة الوعي إلى حالة اللاوعي. إنه يتحدث عن هذه «اللحظة المشتهاة» عند المبدع، وها هو يروي على هذا النحو:
«قيل لي لابد من أن تقوم بالتخطيط بهدوء. أن تحدد الزمان وأن تبسط للمكان مساحة كافية لكي يلتقط الآخر معرفة مشوبة بالفن والقدرة علي تحريك هذه العوالم..
هززت رأسي مرات عديدة. كنت أشبه ما يكون بطفل تقول له أمه: لا تقرب هذه الحلوى. ينكس رأسه انصياعاً إلا أنه في الوقت نفسه يبتلع ريقه, يغمض عينيه فلا يرى في ظلامها الدامس إلا وهج تلك الحلوى. فجأة نظرت إلى أصابعي لفترة طويلة. طالت حتي كدت أشك فيما سيؤول إليه حالي. كنت أشبه بمن يحادث نفسه. كم من كلمة خرجت من بين هذه الأصابع؟ ما هو لونها؟ وهل خرجت فعلاً من داخل القلب دون خوف. ودون رجاء؟ هل خرجت بيضاء كغمام أبيض يمسح رؤوس الأشجار الخضراء؟ هل هطلت مثلما تهطل الأمطار على جبال السودة؟. السودة..».
هذا الاستهلال Protasis يضعنا فيما يُشبه اعتراف المبدع, أو شهادته عن حالة الإبداع, التي تهيمن على المبدع عندما تجتاحه هذه الحالة. هذا الاعتراف ينطوي على رؤية نقدية, لكنها صادرة عن «صاحب القضية» المبدع نفسه. أهم ما في هذا الاعتراف, تلك العلاقة بين المبدع والكلمة, التي يُشبهها بالحلوى المحرمة, لكن وهجها يُغريه بالاقتراب منها, ثم يضع نفسه في موقع المساءلة: «كم كلمة خرجت من بين هذه الأصابع؟ هل خرجت من داخل القلب دون خوف, ودون رجاء؟ هل خرجت بيضاء كغمام أبيض يمسح رؤوس الجبال الخضراء؟ هل هطلت مثلما تهطل الأمطار على جبال السودة؟».
إن هذا الاعتراف الذي صيغ بعناية فائقة, يكشف, عن أهمية العلاقة بين «المبدع والكلمة» وعن وعي الكاتب بهذه القضية. الراوي يُقرر أن اللحظة المشتهاة وهبته نفسها، وأن لحظة المخايلة داهمته في لمح البصر فاقتنص اللحظة وكتب. لقد هطلت الفكرة على ذهنه «مثلما تهطل الأمطار على جبال السودة». وها هي «امغريبة» غريبة في كل شيء، في لحظة هبوطها على السوق فأربكته، مثلما هبطت الفكرة المشتهاة على ذهنه. وسياق النص (دون أن يُفصح)، يضعنا في حالة استباق، لنفهم أن «امغريبة» بجمالها، خطفت عقول كل من كان في السوق، رجالاً ونساء حتى أصحاب «العقول الراجحة»، وأنه لابد من مصادرة هذا الجمال، هذا ما صرح به النائب، الذي اصطحب «امغريبة» إلى الجدة، وقال لها: «حافظي عليها حتى ينتهي السوق، يكفينا مشكلاتنا»، صدر الأمر بألا تعود إلى السوق مرة أخرى. وهذا الموقف يطرح «مفارقة حديثّة» تتخفى في معنى الحدث وما حدث، وتطرح السؤال في معنى أمنية غائبة، هذه الأمنية تستدعي ما هو غير موجود، وعندما ظهر فجأة أحدث ارتباكاً في كل شيء، وانتقل الارتباك إلى الناس الذين يُشابهون بعضهم في كل شيء، ولم يترك لهم خياراً في تقبل هذا الطارئ الذي أربكهم إرباكاً مرحباً به. فيأتي الأمر الرسمي بإبعاده عن مناطق الارتباك.
الوجوه الحاضرة في تداعي سرد الراوي هي: وجه الأم، حضورها بكامل هيئتها تجهز الخبز. الأب الغائب الذي حضر في الليلة الثانية. الجدة (بنت علي) وهي الشخصية المحورية في بناء الحدث وصيرورته. النائب المُعبِّر عن (الرسمي) صاحب الأمر. السوق (سوق الاثنين). «امغريبة» (البدوية) بشخصيتها وليس برمزها المفترض. المشروبات وروائح الريحان والكاري والحناء, أشجار العرعر, رائحة السمن، طعم العسل. وهذه الأخيرة (رائحة السمن وطعم العسل) تتكرر عبر السرد، كالقرار في القصيدة. هذه الوجوه والمحسوسات، ليست رموزًا، بقدر ما هي لوحات تعبر عن وجهة نظر الراوي، عبر الأحداث التي يقطع تسلسلها «المزج» والاسترجاع الداخلي، الذي يُضيء بعض وجهات النظر، مثل وصف النائب بالرسمي «رنة الرسمي»، والربط بين سماع هذه الرنة مراراً، والنار التي بدأت تخبو داخل «الصلل» ثم ظهور شخصية النائب (الرسمي) حصانه أمام البيت، وبعض من صفاته الأمرة، ووصف المرأة البدوية، امرأة جميلة، صورتها الجميلة لا تفارق المخيلة، تفوح منها روائح الريحان والكاري والحناء. و»التسوق» في السوق ومبادلة القمح لدى البائعات بالفاكهة. هذه الأجواء التي وصفها الكاتب باقتدار صادق، وضعنا نحن «المروي لهم» في ديناميكية الحدث، وفي لحظات محسوسة، في هيئة القارئ الضمني، الذي يشارك في إنتاج الدلالة. لكن تظل «امغريبة» في حضورها، وفي غيابها، رمزًا يستدعي الحسرة والأسى.